خطاب الحديقة والأدغال

يوسف الحسن
يوسف الحسن

آخر تحديث: الإثنين 3 أبريل 2023 - 9:20 م بتوقيت القاهرة

فى خطابه، فى افتتاح الأكاديمية الدبلوماسية الأوروبية ببلجيكا، فى أكتوبر الماضى، وصف جوزيب بوريل، منسق الاتحاد الأوروبى للشئون الخارجية، أوروبا بـ«الحديقة»، وبقية العالم بـ«الأدغال»، وقال: إن «الأدغال قد تغزو الحديقة»، وإن القرار الصائب ليس ببناء الجدران لحماية الحديقة، إنما من الضرورى أن يذهب البستانيون (أهل الحديقة) إلى الأدغال.
وأضاف ما معناه أن «الأدغال» لديها قدرة هائلة على النمو وبالتالى، ينبغى على أصحاب «الحديقة» الذهاب إلى «الأدغال» ذات السكان الخارجين عن القانون!
• • •
قيل إن ما نطق به بوريل هو «زلَّة لسان»، وإنه أعلن فيما بعد اعتذاره، وإن «الأدغال» لا تشمل كل من يظن نفسه متحضرا أو حليفا للغرب فى آسيا وإفريقيا.
حسنا، هى ليست زلَّة لسان لغوية، حيث إن صاحبها سياسى مسئول وأستاذ ودبلوماسى محنك، وهى ليست مثل زلَّة لسان الرئيس الفرنسى ماكرون، حينما وصف زوجة رئيس وزراء أستراليا بقوله «زوجتك لذيذة»، ولا تشبه «زلَّة» لسان قيادى تونسى، وهو يتحدث عن «الحوار الوطنى» فى بلاده، فزَّل لسانه وقال «الحمار الوطنى» حتى صارت هذه الجملة جزءا من خطاب المعارضة التى تراهن على فشل الحوار.
لكنها زلَّة كبيرة تشبه، إلى حد كبير، زلَّة لسان الرئيس الأمريكى الأسبق بوش الابن حينما أعلن بأن الحرب الأمريكية على الإرهاب، سوف تكون «حربا صليبية» مع الفارق بين أستاذية بوريل وتجربته السياسية، وبين ضحالة بوش الابن المعرفية والإدراكية، والذى أراد أن يصف أخيرا حرب روسيا فى أوكرانيا، فانزلق لسانه وقال: «إنه غزو غير مبرر ووحشى للعراق».
هى ليست أخطاء بريئة، بل تخرج إلى الوعى على هيئة «زلَّة لسان»، بعد أن تتداخل المشاعر والأفكار المكبوتة فى اللاوعى فى العقل الباطن.
نتذكر «زلَّة لسان» جون كيرى فى العام 2015، حينما كان وزيرا للخارجية الأمريكية، فقال فى مداخلته وهو يتحدث فى مؤتمر «لدعم وتنمية مستقبل مصر الاقتصادى»: «لا بد أن نسعى جميعا لأجل مستقبل إسرائيل» ثم تدارك الأمر، واعتذر قائلا: «أقصد مستقبل مصر».
كما نتذكر «زلَّة لسان» رئيس وزراء إسرائيل الأسبق إيهود إلمرت خلال زيارته إلى ألمانيا، وقوله: «إن الإيرانيين يطمحون لامتلاك أسلحة نووية، على غرار أمريكا وفرنسا وروسيا وإسرائيل». (زلَّة لسان، أدت إلى كشف الغطاء رسميا عن أن إسرائيل تملك أسلحة نووية).
نعم هى ليست أخطاء بريئة، مرتبطة بالشيخوخة (جو بايدن) أو بالبله أو الإرهاق أو التلعثم أو الاختلاط اللغوى، وإنما هى «انزلاق فرويدى» نسبة إلى سيجموند فرويد، مؤسس مدرسة التحليل النفسى.
هل كان جوزيب بوريل السياسى الإسبانى المولود فى كتالونيا، يغازل (بانتهازية صارخة) التيارات اليمينية والشعبوية المتطرفة فى أوروبا؟ أم أن «زلَّة لسانه» كانت تعبيرا عن أفكار ومشاعر دفينة فى الذهنية الغربية، وبخاصة فى أوروبا، وتجسيدا لمفهوم المركزية الأوروبية، وللصورة النمطية السلبية لشعوب «الهوامش ــ الأدغال»، لدى قطاعات عريضة فى الغرب.
نعم، ما زال السلوك الاستعلائى يقيم فى متن المركزية الأوروبية، رغم أنها هى التى صدَّرت للعالم الاستعمار والنازية العنصرية والفاشية، وأشعلت حربين كونيتين مدمرتين، بعد حروب دينية بينية فى أوروبا استمرت نحو مائة عام، وقد تخلّفت إفريقيا بسبب سياسات وغزوات استعمارية، ونُهبت خيراتها ومواردها طوال خمسة قرون، وتراكمت ثروات أوروبا وازدهرت «الحديقة».
«زلَّة لسان» بوريل جاءت حينما أغمض عينيه عن حقائق تاريخية تؤكد، جرائم إنسانية ارتكبها أصحاب «الحدائق» بحق سكان «الأدغال» فى آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، ألا يتذكر صاحبنا، جرائم بلجيكا فى الكونغو فى أواخر القرن التاسع عشر؟ قطع الغزاة رءوس الناس، وعلقوها على الأشجار، وأخذوا صورا تذكارية معها. جرائم فرنسية ارتكبت فى الجزائر على مدى أكثر من 130 عاما، وبنت متحفا لجماجم الجزائريين، وحملات عسكرية فرنسية قصفت «الدار البيضاء» المغربية بالمدفعية ودمرت معظم بيوت المدينة فى مطلع القرن العشرين، وتكررت المذابح والاغتيالات طوال النصف الأول من القرن الماضى. كذلك فعل الجيش الإسبانى، وارتكب جرائم بشعة فى الريف المغربى الشمالى، واستخدم غازات سامة وكيماوية.
سكان وساسة وعسكر من «الحديقة» ارتكبوا أبشع جرائم القتل والتخريب الاجتماعى والنهب فى فيتنام وأفغانستان والعراق، وها هم حراس «الحديقة» المعاصرون يستعيدون نزعة أجدادهم الاستعلائية، وشهوة الهيمنة الأحادية على النظام الدولى، حتى ولو تم ذلك فوق جثث ودمار الشعب الأوكرانى، وربما فناء البشرية من خلال حرب الحمقى النووية.
ولعل صاحبنا السياسى والأكاديمى والدبلوماسى بوريل يتذكر جيدا الفظائع الذى ارتكبتها «الحديقة» الإسبانية فى «أدغال» شعوب وحضارة «الإنكا» فى بيرو ومدن جبال الأنديز فى القرن السادس عشر.
هل يتذكر صاحبنا القرصان الإسبانى فرانسيسكو بيزارو وغزواته الوحشية، وتأسيسه لبدايات الاستعمار الإسبانى فى بيرو والإكوادور وبنما وجواتيمالا وتشيلى وغيرها، وكيف كان الجند يقطعون أذرع الناس وأنوفهم وصدور النساء، ثم يدفعون بهؤلاء الضحايا إلى القرى والمدن (سلاح نفسى وداعشى أصيل)، ويسلبون خيرات البلاد وذهبها ويدمرون تراثها، ونشروا وباء الجدرى فى منطقة الكاريبى، وبين شعوب لم تمتلك أى مناعة ضده.
• • •
قبل نحو عقد ونصف العقد، زرت بيرو فى مؤتمر دولى للمعاهد الدبلوماسية انعقد فى ليما العاصمة، وحرصت على زيارة عاصمة «الإنكا» التاريخية «كوزكو» الواقعة فى جنوب شرق البلاد، والتى ترتفع أكثر من اثنى عشر ألف قدم عن سطح البحر.
وقفت حائرا أمام لوحات فنية فى كاتدرائية هذه المدينة التاريخية، وتملكتنى حيرة شديدة، وأنا أشاهد لوحة تماثل تماما لوحة «العشاء الأخير» التى رسمها ليوناردو دافنشى، ووجه «يهوذا» الخائن يبدو فى اللوحة البيروفية، يحمل وجها آخر يجسد وجه القائد الإسبانى بيزارو الذى قاد الغزو الإسبانى، وقضى على حضارة «الإنكا» فى القرن السادس عشر.
توجهت إلى المرشد السياحى فى الكاتدرائية، مستفسرا بدهشة لم أستطع كتمانها، شدنى المرشد من يدى، وقال: «إنها تعبير عن ممانعة الشعوب للاستعمار، حينما يفرض عليها بالإذعان والبطش، تغيير تقاليدها وتراثها ومعتقداتها، وإن هذا الفن البيروفى هو الرد على الاستعمار الإسبانى لبلادنا، حينما أجبرنا على اعتناق ديانته، ونهب ثرواتنا وقتل قادتنا وشعبنا».
اندثرت حضارة «الإنكا» وهى الحضارة التى تأثرت كثيرا بتقاليد الهنود الحمر والتقاليد الإفريقية، ونُهبت ثروات الأطراف «الأدغال» من أجل رفاهية «الحديقة».
فى تلك الأزمنة، منح البابا ألكسندر السادس، ملك إسبانيا، الحق فى غزو أمريكا الجنوبية، كما منح إفريقيا والبرازيل للبرتغاليين، وكانت سواحل بحر العرب، وبخاصة خورفكان، من حصة القرصان البرتغالى المتوحش البوكيرك.
زلَّة لسان بوريل، مقبولة، لو فسّرت للعالم كيف سيكون مستقبل «الحديقة» الديموغرافى؟

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved