من المنظمات غير الحكومية إلى شديدة الحكومية

سلام الكواكبي
سلام الكواكبي

آخر تحديث: الإثنين 3 مايو 2010 - 10:35 ص بتوقيت القاهرة

 عانت النخب العربية طويلا ــ التى تؤمن بالدور الأساسى والهام للمجتمعات المدنية فى تعزيز عملية التحول الديمقراطى لفترة طويلة ــ من ممانعة حكومية ومجتمعية لطرح مفهوم المجتمع المدنى بديلا أو تكملة لمفهوم المجتمع الأهلى القائم على الروابط القبلية والعائلية والمناطقية والدينية.

وثابرت النخب السياسية المسيطرة فى كثير من البلدان العربية من أجل رفض تداول مصطلح «المجتمع المدنى»، محاولة بذلك أن تربطه بأفكار مستوردة من الخارج أو مفروضة من قبل ثقافات تبحث عن الإخلال بمتانة وعراقة مراجعنا ومرجعياتنا. من ناحية أخرى، عانى من حاول العمل على تطوير البحث فى هذا الإطار من اتهامات جزافية بين العمالة والرغبة فى تفتيت أخلاقيات قائمة.

وقد نشر العديد من الأبحاث التى تتناول هذا الموضوع.. حول النظرة الإيجابية له التى تبناها البعض بصعوبة بالغة، والنظرة السلبية التى انتشرت عبر القيادات السياسية وتوسع العمل بها من خلال قنوات إعلامية ومجتمعية مرتبطة إيديولوجيا أو أمنيا بالمرجعيات الحاكمة. لكن الوعى العربى استطاع تجاوز مرحلة تحديد المفهوم والتشكيك فيه وفى أصوله وفيمن جاءنا به وكيف تم ذلك... إلخ.

كما لم يكل ولم يمل الجانب المشارك فى عملية الحجب والتغطية المستمرة من تكرار هذه الأسئلة المملة. فأصبح بالإمكان استعمال المفهوم دونما الحاجة فى كل شاردة وواردة إلى تبريره أو إلى إيجاد تفسيرات ملائمة تغنينا عن شر أو تقينا من عقاب. وتعزز هذا الأمر مع لجوء بعض الأطراف الإصلاحية فى المؤسسات الحاكمة العربية إلى إبرازه فى خطاباتها بشكل يبدو وكأنه أضحى من المفاهيم المعتمدة قبل القمة، وليس على القاعدة إلا الانصياع. وهذه فى رأيى من أفضل وأندر الانصياعات لما يتفوه به الحكام من إيجابيات على قلتها.

تتميز المنظمات المدنية العربية بأنواع عديدة ترتبط بطبيعة الممارسة وبمرجعية القيادة بالمعنى المهنى وليس السياسى. ونستطيع أن نميز ثلاثا منها بشكل واضح وصريح. أولها هو المنظمات غير الحكومية التى تعالج أمورا متنوعة من العمل الخيرى إلى حماية التراث إلى الدفاع عن الطيور النادرة إلى العمل فى مجال حماية البيئة، إلى الاهتمام بالدفاع عن حقوق بعض الفئات المستضعفة من السكان، كأصحاب الاحتياجات الخاصة (والذين يصر البعض عن سهو ربما على تسميتهم بالمعاقين)، أو أصحاب الأمراض المزمنة... إلخ.

وتستطيع هذه المنظمات والجمعيات القيام بأنشطتها بشكل حر نسبيا ويختلف الأمر من دولة إلى أخرى، حيث إن بعض الدول قد حققت تقدما كبيرا فى النظر إلى العمل المدنى كالمغرب مثلا، وبعضها الآخر لايزال يحبو فى هذا المجال، كسوريا مثلا.

وعلى الرغم من هذه الحرية النسبية فى العمل وفى النشاط، فإن هذه الجهات تعانى من عقبات ترتبط بالعقلية البيروقراطية للجهات الرسمية أحيانا، وبعقلية أمنية لدى جهات أخرى رسمية هى أيضا أحايين أخرى ومتكررة. يضاف إلى ذلك، إمكانية أن تكون ذات أبعاد علمانية أو أنها تتبع لأحد الأديان أو أحد المذاهب، مما يحصر مجال تفاعلها المجتمعى بأتباع طوائفها فى الغالب على الرغم من توجه عديد من الجمعيات الدينية فى المشرق إلى أبناء جميع الأديان، نظريا على الأقل.

النوع الثانى من المنظمات غير الحكومية، هى التى تهتم بمتابعة احترام وصون الحريات والدفاع عن الحقوق الأساسية للإنسان، وهى غالبا ما توصم من قبل السلطات الحاكمة بأنها غلاف هش لتوجهات سياسية معارضة، وبأنها تستغل الملف المطلبى الحقوقى للوصول إلى غايات أخرى لا تريح البتة من هم فى قمة الهرم الحكومى.

وهذه الجمعيات تنشط بشكل متفاوت أيضا من الناحية الجغرافية، فهى مثلا متقدمة فى العمل الحقوقى فى المغرب وفى مصر وفى فلسطين، ومصرح بمجملها أيضا، فيما يبدو أنها تعانى فى الحصول على التصريح بالعمل وتعانى من التشكيك المباشر أيضا فى عديد من الدول الأخرى. ولقد تعاملت الجهات المانحة مع هذه الجمعيات بشكل شفاف حينا، وبشكل ضعيف الشفافية فى أحيان أخرى، مما ساهم فى حصول انقسامات فى بنى بعض هذه الجمعيات بالاستناد إلى سهولة الحصول على تمويلات مجزية.

وبالطبع، تمتد هذه الحال على كل أنواع الجمعيات ولا تختص به الحقوقية منها، ولكن الحاكم، يركّز عليها فيما يخص التمويل لإضعاف ثقة الناس بمصداقيتها، ولكنه غالبا ما يفشل فى فرض هذه الصورة الضبابية عن حوكمة الجمعيات، على الرغم من أن هذه النقطة حساسة وتحتاج إلى مراجعة فكرية لمفهوم الاندماج الطوعى والمهنية اللازمة لإنجاح العمل العام.

النوع الثالث من الجمعيات، هى التى بدأت بالظهور فى بدايات الألفية الثانية مع وصول قادة شبان إلى سدة الحكم فى بعض البلدان العربية وتطور اتفاقيات الشراكة مع أوروبا والتى تخصص فيها أموال ومنح هامة لدعم المجتمعات المدنية فى جنوب الحوض الأبيض المتوسط. وفطنت الحكومات إلى فشلها الجزئى أو الكلى فى تغطية عملية التنمية الاجتماعية والاقتصادية والخدمية، عازية السبب إلى ضخامة التكليف، ومبتعدة عن الاعتراف بسوء الإدارة وبالفساد الذى رعته أو رعاها لفترات طويلة من الزمن.

وبالتالى، بدأ مفهوم العمل المدنى الذى يستقطب الأموال الخارجية المخصصة للمجتمعات المدنية «الطبيعية» بالبروز فى الذهنيات الحاكمة، فتم اللجوء إلى خلق مجتمع مدنى حكومى. وهذا ما يذكر بتجربة مختلفة فى المضمون ــ ولكن شبيهة فى الشكل ــ عندما تعرضت بعض الدول العربية إلى ضغوطات سياسية وأحيانا أمنية من قبل جهات أصولية، بأنها عمدت بعد إقصائها العنيف لهذه الحركات، إلى إنشاء أصولية رسمية استقطبت من خلالها من تاب وأعادت تأهيله ليصبح مانحا للشرعية الدينية بالطريقة الرسمية المتحكم بها.

الميكانيزم متشابه على الرغم من اختلاف الطبيعة السياسية والأيديولوجية للتوجهين. نعود إذا إلى هذه المنظمات غير الحكومية ولكن شديدة الارتباط بالسلطة السياسية، وهنا تمييز مهم فى كونها ربما تحوز على استقلالية كاملة عن الحكومة كجهاز بيروقراطى فيما أنها تتبع بشكل حثيث للتوجهات السياسية فى قمة الهرم بعيدا عن تدخلات الجهات الحكومية.

ولقد استفادت التجربة العربية من التجربة الصينية، والتى تبين الدراسات أن هذا النوع من المنظمات، ليس بالضرورة مجرد استقطاب سلطوى سلبى للعمل المدنى وتأميم جديد للساحة العامة، وإنما ربما يكون لها أثر إيجابى فى خلق حراك مجتمعى مهنى تطوعى مشترك، مازالت مجتمعاتنا العربية جديدة الخوض فيه. أى أن هذه المنظمات، ومن خلال حصولها على التغطية السياسية، وابتعادها عن المساءلة أمام وزارات معرقلة لعملية الشراكة، فإنها يمكن أن تنجز ما تعجز عن إنجازه المنظمات المستقلة حقا، حيث إن هذه الأخيرة، تحتاج إلى أطنان من الموافقات والمعاملات والاستثناءات والتضرعات حتى تصل إلى إنجاز أعمالها بأقل خسائر زمنية ومادية ممكنة. التجربة العربية حديثة، وهى تبرز فى الأردن وفى سوريا وفى دول الخليج. وتحتاج للوقت المناسب لكى يجرى الحكم عليها. وهى بعيدة كل الابتعاد عن العمل المطلبى الحقوقى، وبالتالى، فهى تحصر أنشطتها فى المجالات التنموية والشبابية.
إن علينا أن نعترف بأن الإطار المانع للحراك المدنى المستقل فى شكله الصحى فى غالب الدول العربية، يبعث على «التنازل»، ولكن وجود مثل هذه المنظمات وازدهار أنشطتها، هو بمثابة مرحلة عبور من اللاشىء إلى القليل من الشىء... ربما.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved