السياسة الخارجية المصرية: ضاعت البوصلة أم تعطلت؟

مصطفى كامل السيد
مصطفى كامل السيد

آخر تحديث: الإثنين 3 مايو 2010 - 10:29 ص بتوقيت القاهرة

 عندما يطالع القارئ هذا المقال يكون بنيامين نتنياهو رئيس وزراء إسرائيل مجتمعا مع الرئيس حسنى مبارك فى شرم الشيخ أو يكون فى طريقه إليها.. وبصرف النظر عن الموقف الشخصى من تكرار زيارات نتنياهو لمصر ــ وهناك بلاشك من يعترضون على قدومه،

وهناك من قد لا يجدون غضاضة فى ذلك ــ إلا أنه يبقى دائما من المشروع التساؤل عما يمكن أن تحققه هذه الزيارة، وهل هى تندرج فى إطار أوسع يمثل رؤية لما يجب أن تسعى إليه السياسة الخارجية المصرية، أم إنها مجرد استجابة لرغبة أبداها رئيس وزراء إسرائيل، ولم تملك الحكومة المصرية على أعلى مستوياتها سوى قبولها.

والواقع أنه يبدو للمراقب للسياسة الخارجية للحكومة المصرية، بل ولجوانب كثيرة من سياستها الداخلية أنه لا توجد رؤية واسعة ومقنعة لا هنا ولا هناك.

وقبل أن ننتقل إلى توضيح مسألة غياب الرؤية هذه لابد من التوضيح أنه ليس صحيحا أنه ليس فى جعبة الحكومة المصرية أعذار تقدمها لتأجيل زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلى. فالحكومة المصرية وجدت من الحجج ما يدعو لتأجيل زيارة الرئيس السورى بشار الأسد الذى أوردت الصحف المصرية مرات عديدة رغبته فى زيارة مصر، ليس بالضرورة للتباحث فى القضايا الخلافية بين البلدين، وإنما للإعراب للرئيس مبارك عن تهانيه لاستكمال نقاهته،

ومع ذلك وجدت الدبلوماسية المصرية من الأسباب ما يدعو إلى تأجيل هذه الزيارة، على الرغم من أن وجود الخلافات لا يجب أن يدعو إلى وقف الاتصالات على أعلى مستوى. ومن المرجح أن هناك خلافات مع الحكومة الإسرائيلية التى وصفها وزير الخارجية أحمد أبوالغيط فى أكثر تصريحاته توفيقا بالعدو، ومع ذلك تجد رغبات قادتها فى زيارة مصر آذانا صاغية.

غياب البوصلة فى العلاقات المصرية ــ الإسرائيلية

لا يبدو للمراقب المتابع لأحوال العلاقات المصرية ــ الإسرائيلية، ولمواقف الحكومة الإسرائيلية ما يدفع إلى الاعتقاد بأنه يمكن أن ينجم عن هذه الزيارة أى تقدم فى البحث عما أصبح يسمى بعملية السلام فى الشرق الأوسط، بل الأكثر من ذلك أنه ليس من الواضح إطلاقا أنه يخدم أى مصلحة عربية فى الوقت الحاضر. هذه الزيارة تأتى بعد أن رفضت حكومة نتنياهو مطالب عديدة لرئيس الولايات المتحدة الأمريكية، والذى يحلو للإعلام العربى وصفه بأنه رئيس القوة العظمى الوحيدة فى العالم، وعلى الرغم مما فى هذا الوصف من مبالغة..

إلا أنه يبقى صحيحا أن الولايات المتحدة مازالت صاحبة أكبر اقتصاد فى العالم، وهى بكل تأكيد القوة العسكرية الأولى عالميا وبلا منازع، والأهم من هذا كله هى التى تعتمد عليها إسرائيل عسكريا وسياسيا ودبلوماسيا، ومع ذلك كله رفضت حكومة نتنياهو مطالب الإدارة الأمريكية بوقف الاستيطان عموما، وبوقفه فى القدس. بل ورفضت الإجابة عن الأسئلة التى طرحتها عليها هذه الإدارة.

ولاشك أن هناك فارقا كبيرا بين النفوذ الممكن نظريا أن تمارسه الولايات المتحدة على إسرائيل، وأى تأثير يمكن أن تمارسه مصر ــ وهو ضئيل إلى أبعد الحدود ــ لذلك فإنه مما يثير الفضول حقا أن نعرف ما الذى يدور بعقول من يصنعون سياسة مصر الخارجية وهم يرحبون بزيارة رئيس وزراء إسرائيل لشرم الشيخ.

وبالطبع سوف تخرج علينا الصحف الحكومية بالادعاء أن هذه الزيارة تسهم فى تحقيق التقارب بين المواقف الإسرائيلية والفلسطينية ليس بخصوص قضايا التسوية، وإنما بخصوص البدء فى مفاوضات غير مباشرة بين الطرفين. ويعلم القاصى والدانى أنه لا يوجد أى احتمال أن تفضى مثل هذه المفاوضات إلى أى نتيجة تتفق مع الحد الأدنى للمطالب الفلسطينية والعربية.

لو كانت هناك رؤية لدى الحكومة المصرية لما يمكن أن تحققه علاقاتها مع إسرائيل، فربما كانت تضع شروطا لإتمام مثل هذه الزيارات، أو تجد من الحجج ما يدعو إلى تأجيلها فى الوقت الحاضر، ولكن اللقاء مع رئيس الوزراء الإسرائيلى بمواقفه المعروفة فى الوقت الذى تستمر فيه حكومته فى فرض الحصار على قطاع غزة، وتجتهد كل يوم لاستئصال الوجود الفلسطينى فى القدس،

وتواصل سياسة الاغتيالات للشخصيات الوطنية الفلسطينية فى الضفة الغربية ذاتها غير آبهة بوجودهم فى أراض تابعة للسلطة الفلسطينية التى تريد التفاوض معها، وفى الوقت الذى لا تلتقى فيه القيادات المصرية بزعامات حركة حماس، بل وتستمر جهودها الدءوب لتشييد جدار فولاذى على حدود مصر مع قطاع غزة يظهر مصر فى الموضع الذى لا تريد الحكومة المصرية أن يراها الرأى العام المصرى والعربى فيه، وهو أنها أقرب إلى إسرائيل منها إلى الأشقاء الفلسطينيين الذين تدعى أنها تعمل لخدمة قضيتهم.

غياب البوصلة فى العلاقات مع الدول العربية
ولا تغيب الرؤية فقط فى علاقات مصر بالفلسطينيين، ولكنها تغيب فى علاقات مصر العربية. الإعلام الحكومى لا يمل من تكرار القول بالقيادة المصرية للعالم العربى، ولا شك أن كبار المسئولين المصريين يتملكهم الاعتقاد بأن مصر تقود العالم العربى، وإذا كانت ثمة أصوات ترتفع هنا وهناك تختلف مع مواقف الحكومة المصرية، فهى فى رأيها أصوات نشاز، أو هى مجرد محاولات فاشلة لانتزاع دور لا تمكنهم منه «لا معطيات الجغرافيا ولا حقائق التاريخ».

ولكن الباحث عن رؤية مصرية لما تريده حكومتها من العالم العربى سوف يشعر بالإحباط حيث إن هذه الرؤية غير قائمة، وإذا كانت هناك كتابات أو خطابات هنا أو هناك، فإن المواقف الفعلية وتحركات الدبلوماسية المصرية لا تتسق معها. كانت هناك رؤية للقيادة المصرية فى الخمسينيات والستينيات تدعو إلى مكافحة الاستعمار فى الوطن العربى، وتسعى إلى تحقيق الوحدة بين أقطاره.

قد يختلف البعض مع هذه الرؤية وقد يساندها آخرون، ولكن لا شك فى أن تلك كانت رؤية واضحة لما تريده مصر، وكانت مواقف الحكومة المصرية وجهودها السياسية والدبلوماسية والإعلامية تجاه الوطن العربى تتفق مع هذه الرؤية. وكانت مصر تتمتع بقدرات اقتصادية وعلمية تتفوق على غيرها من الدول العربية، ولذلك كان دور مصر القيادى فى تلك الفترة يتوافق مع إمكانياتها.

طبعا تغيرت الأوضاع فى الوطن العربى الآن، وأصبحت الدولة الاستعمارية الأولى والتى تمارس احتلال أرض عربية فى العراق، وكانت تهدد حتى سنوات قليلة باحتلال أراضى دول عربية أخرى، هى صديقة معظم الحكومات العربية أما عن هدف الوحدة العربية فقد أصبح من ذكريات الماضى، وتفوقت دول عربية أخرى على مصر من حيث قدراتها الاقتصادية.

فهل ظهرت رؤية بديلة تأخذ فى الاعتبار تغير هذه الظروف.. لا توجد فى الواقع هذه الرؤية. ومع ذلك هناك إصرار على الادعاء بقيادة مصر للعالم العربى، وعندما يصطدم هذا الادعاء بوجود قوى عربية رسمية وغير رسمية تختلف مع بعض توجهات الحكومة المصرية تناصبها حكومتنا العداء، وبدلا من أن تسعى للحوار معها، وتحاول إما إقناعها بوجهة نظرها أو إيجاد أرضية مشتركة تخدم أهدافا واحدة، فإن الحكومة المصرية تفعل تماما ما كنا نفعله ونحن أطفال صغار، أى مخاصمة من يختلفون معنا.

وهكذا خاصمت مصر حكومة قطر والحكومة السورية وحركة حماس وحزب الله، بل وتخاصم أيضا الحكومة الجزائرية ومن قبل مباراتى كرة القدم اللتين صورتهما أجهزة إعلامنا الرسمية كما لو كانتا حربا ضروسا مع شعب عدو. وبطبيعة الحال امتد أسلوب الخصام خارج الوطن العربى ليشمل إيران أيضا ويتغذى بادعاءات لا يقوم عليها دليل بتهديد إيران للأمن القومى المصرى.

وإذا كانت الرؤية البناءة الواسعة غائبة، فإن ذلك لا يعنى غياب رؤية فعلية غير بناءة وضيقة الأفق، بتصور أصحابها أنها هى رؤية واقعية. يقسم قادتنا البلاد العربية إلى بلاد مفيدة وأخرى غير مفيدة، والدول المفيدة هى أساسا دول الخليج وتنضم إليها ليبيا، أو الدول التى تشارك مصر فى العلاقات الوثيقة مع الولايات المتحدة الأمريكية، ففى بعض هذه الدول عمالة مصرية مهاجرة، ولديها فوائض مالية مهمة، أو هى مثل الأردن تتعاون مع مصر فى تلبية رغبات الولايات المتحدة بالنسبة للفلسطينيين وتحقيق الاستقرار فى العراق، ولذلك تتكثف اتصالات مصر مع هذه الدول وتقل اتصالاتها مع غيرها من الدول العربية إلا إذا فرضتها الضرورة كمثل حالة السودان. فى كل هذه الحالات الذى يحرك السياسة المصرية مجرد اعتبارات جزئية ومؤقتة، ولكن دون رؤية شاملة.

غياب الرؤية فى العلاقات المصرية الإفريقية

وقد أصبح الرأى العام المصرى يدرك أخيرا الثمن الفادح الذى تدفعه مصر نتيجة غياب مثل هذه الرؤية لعلاقات مصر مع الدول الأفريقية. لا داعى هنا للتذكير بالدور النشط للسياسة المصرية فى أفريقيا فى الخمسينيات والستينيات، والذى اهتدى برؤية واكبتها سياسة فاعلة للمشاركة فى تحرير أفريقيا من الاستعمار وتوثيق التضامن مع شعوب القارة فى إطار منظمة الوحدة الأفريقية التى ساهمت مصر فى إنشائها، والسعى لتغيير نمط العلاقات الاقتصادية الدولية على نحو أكثر تكافؤا وهو ما اعترفت بفضله شعوب أفريقية عديدة أطلقت اسم الرئيس المصرى على شوارع مهمة فى عواصمها. لا يمكن وصف علاقات مصر بالقارة الأفريقية خصوصا فى السنوات الخمس عشر الأخيرة إلا بالتجاهل لأفريقيا ككل.

حضور مصرى بأدنى من القمة فى مؤتمرات القمة الأفريقية، أو يقتصر الحضور فى هذه المؤتمرات على وقت إلقاء الخطاب الرسمى ومقابلات محدودة مع الرؤساء الأفارقة. ولمن يعرف أفريقيا فإن وقع ذلك التعالى على قياداتها لهو جد جسيم، ثم غياب مصرى أو تمثيل دون المستوى فى اللقاءات الأفريقية المهمة مثل اجتماعات البرلمان الأفريقى أو الكوميسا. وقد أصبح الثمن الباهظ الذى تدفعه مصر واضحا فى حالتين: قلة تأييد الدول الأفريقية لعضوية دائمة لمصر فى مجلس الأمن، وإصرار دول منابع النيل على توقيع اتفاقية إطارية لا ترضى عنها مصر والسودان أو بدونهما.

لماذا تغيب البوصلة؟
من الواضح أن غياب هذه الرؤية الشاملة لما يجب أن تكون عليه سياسات الحكومة المصرية خارجيا وداخليا يضر بمصلحة مصر، فقد أسهم على الصعيد العربى فى قلة فعالية الدور المصرى فى علاج أهم القضايا العربية فى فلسطين والعراق ولبنان، وشجع نمو اتجاهات فى الرأى العام العربى معادية لمصر كما اتضح فى الجزائر وفلسطين ولبنان، وانصراف الدول الأفريقية عن مساندة الحكومة المصرية فى قضايا حيوية بالنسبة لمصر، كما أنه يكمن وراء تصاعد الاحتجاجات الاجتماعية والسياسية التى شاركت فيها معظم فئات الشعب.

ولكن غياب الرؤية الشاملة لا يعنى غياب أى رؤية، فقد حلت محلها رؤية أخرى تقسم دول العالم إلى دول مفيدة وأخرى غير مفيدة، وهى رؤية قاصرة، فالدول المفيدة لا تقدم الدعم الكافى لمصر، والدول غير المفيدة انتقمت من السياسة المصرية بوسائلها. وعلى المستوى الداخلى تتعمق الأزمة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية دون أن يظهر فى الأفق احتمال للتخفيف منها فى المستقبل القريب.
قد يقول البعض إن البوصلة موجودة إذن.. ونقول لهم إنها لا تشير إلى الاتجاه الصحيح.
أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved