سوريا.. هل انتحرت الإنسانية؟

مصطفى النجار
مصطفى النجار

آخر تحديث: الجمعة 3 مايو 2013 - 8:00 ص بتوقيت القاهرة

 هنا وحدى لم يأت معى أحد من أسرتى فقد مات إخوتى الثلاثة فى قصف استهدف بيتنا أما أبى وأمى فقد بترت أطرافهما ولم يستطيعا أن يخرجا مع من نزحوا إلى المخيمات وطلبوا من جيراننا أن أخرج معهم للمخيم حتى لا أموت فى قصف جديد، رفضت أن أترك أبى وأمى ولكن أقسم علىّ أبى وقال: اذا مات كل أولادى فلتبق أنت حتى تكبر وتقاتل من أجل الحرية، ودعت أبى وأمى ونزحت مع جيراننا إلى هذا المخيم ومازلت أنتظر أن أعود إليهم أو يأتوا لى ولكن الطريق لبلدتنا كله موت وألغام وقصف!

 

هكذا قال لنا محمد وهو طفل سورى فى التاسعة من عمره يعيش فى أحد مخيمات اللاجئين داخل سوريا، لم يبك أو يهتز وهو يروى لنا مأساة عائلته وودعنا بثبات عجيب قائلا بابتسامة صادقة: بكره بتتحسن الظروف.

 

فى أزمنة الحروب حين يفر بعض المدنيون بعيدا عن أماكن الحرب تتوفر لهم الحماية والحصانة ولا يقوم أى طرف محارب بالتعرض لهم ولكن نظام بشار لا يعرف شيئا عن هذه الحقوق فقصف المخيمات والأماكن الآمنة مستمر، وسيسجل التاريخ أن هذا الطاغية قد استخدم صواريخ سكود والقصف الجوى والمدفعية لعقاب شعبه الذى خرج سلميا فى البداية يطالب بالحرية وإقامة دولة ديمقراطية يحترم فيها الإنسان مثل بقية شعوب الأرض.

 

•••

 

فى مخيم قاح بريف ادلب حدثنا ضابط طيار انشق عن الجيش النظامى رافضا تلك المجازر التى يمارسها ضد شعبه، نزح مع أسرته المكونة من 8 أفراد وقال لنا: لم أستطع أن أقتل أهلى وشعبى وتركت كل المميزات المادية التى كان يمنحها لنا النظام وجئت مع عائلتى إلى هنا هربا من الموت وبحثا عن الحياة، لكن يبدو أن الموت يطاردنا فى كل مكان فحتى الآن لم نستطع الحصول على خيمة للإيواء ونفترش الأرض على قمة هذا الجبل وننام فى العراء لتلدغنا الأفاعى والعقارب لنموت، أما من استطاعوا الحصول على خيمة فإنهم أيضا يموتون من شدة الحرارة داخل هذه الخيام بالإضافة إلى ما ترونه من كارثة بيئية وصحية بسبب عدم وجود نظام للصرف الصحى حيث تمر بين الخيام مخلفات الصرف الصحى وتتراكم عليها الحشرات التى أدت إلى ظهور أمراض جلدية وحساسية فى الصدر مع عدم وجود أى خدمات صحية، هربنا من موت إلى موت ولكنه قدرنا.

 

فى نفس المخيم قالت لى الطفلة (وئام) وهى طفلة جميلة فى العاشرة من عمرها نحن لا نحصل إلا على وجبة واحدة فقط يوميا هى وجبة إفطار مكونة من رغيف وقطعة جبن وقطعة حلاوة صغيرة وليس لنا دخل نشترى به الطعام من خارج المخيم فقد استشهد أبى أثناء القصف ورحلت بنا أمى إلى هذا المخيم أنا وأخواتى الأربعة ولم نستطع أن نخرج إلى تركيا أو مصر كما ذهب غيرنا لأننا لا نمتلك مالا يكفى للسفر، أرجوكم ساعدونا فى أن نكمل تعليمنا، أنا عايزه أكون طبيبة وأركب أيدى وأرجل لكل الأطفال الذين فقدوا أطرافهم بسبب القصف والصواريخ!!

 

فى ريف حلب قابلنا الطفل سلطان ذا الخمس سنوات الذى أصابته شظايا من القصف الجوى أدت إلى بتر ساقه بالكامل ومنطقة جهازه التناسلى فصار قعيدا على كرسى واضطر الأطباء إلى عمل فتحة مؤقتة فى جسده ليستطيع إخراج البول منها كى لا يموت من الاحتباس، يمشى والد سلطان به على كرسيه المتحرك ويتجول به حول المستشفى الذى يقيم فيه ويقول له: هذه أشجار الزيتون التى يحرقونها ستشفى وتعود إليك قدمك وستزرع هذه الأرض من جديد.

 

مأساة سلطان ليست فى إصابته فقط واحتياجه للسفر خارج سوريا للعلاج ولكن فى عدم قدرة والده على الخروج من سوريا لفقر الحال وقصر اليد وكذلك عدم وجود جواز سفر لديه مع رفض النظام السورى عمل أى جواز سفر جديد للمواطنين السوريين ويبقى سلطان شامخا لم يكسره ما أصابه.

 

•••

 

قد تسمع وقد تقرأ عن حادثة ما وظروف ما وقد تكون حولها وجهة نظر معينة، لكن ليس من رأى كمن سمع، تنام قرير العين بين أبنائك تشعر بالأمان وهم ينامون وينتظرون الموت فى كل لحظة، لا يعرفون متى يتوقف القتل ولكن الذى يعرفونه أنهم لن يستسلموا مهما كان الثمن فليس لديهم ما يخسرونه.

 

فى مخيم اطمة أمسك بيدى الطفل محمود ذو الست سنوات وقال لى: تعال معى أنا سأريك المخيم، أنا القائد، قلت له أنت القائد وتجول بى وهو يمسك يدى وعندما اقترب منا طفل آخر يطلب المساعدة من هؤلاء الغرباء الذين جاءوا لزيارة المخيم نهره محمود وقال له: امشى هذا عيب السوريون لا يتسولون من أحد، ربت على كتفه وقبلت رأسه وقلت فى قرارة نفسى: لن يهزم شعب هؤلاء هم أطفاله.

 

كل ما عرفته قبل ذلك عن الوضع فى سوريا يحتاج إلى إعادة نظر فما يصل إلينا ليس صحيحا فى مجمله وصراعات السياسة توجه أدواتها الإعلامية لتزييف الحقيقة لأغراضها التى قد تكون غير أخلاقية.

 

اضبط بوصلتك من الآن لتقترب من الواقع مجردا بلا مبالغة أو توجيه أو انحياز ومهما كانت تداعيات السياسة وتأثيراتها فالبعد الإنسانى يتسامى فوق كل اعتبار وإذا أفقدك انحيازك انسانيتك فأنت لا تستحق الحياة، فى سوريا شعب يباد وزهور تتفتح وحلم يقاتل وأمل لا يموت وفجر سيأتى مهما أوصدوا فى وجهه كل الأبواب، ربنا موجود.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved