يعنى إيه شعب؟

إكرام لمعي
إكرام لمعي

آخر تحديث: الجمعة 3 مايو 2019 - 10:25 م بتوقيت القاهرة

لا شك أن التعديلات الدستورية التى أعطت كوتة للمرأة لا تقل عن ربع مجمل عدد الأعضاء، وأعطت الشباب والمسيحيين والأشخاص ذوى الإعاقة والمصريين المقيمين فى الخارج تمثيلا ملائما فى مجلس النواب، وذلك على النحو الذى يحدده القانون، إنما هى محاولات لمعالجة ممارسات سياسية رديئة ضد الأقليات على المدى الطويل. ولو كان الشعب يعيش وعيا سياسيا حقيقيا، وفهما ناصعا لمصلحته، ومصلحة الأجيال القادمة، لاستطاع تحقيق مجتمع ديمقراطى فيه المساواة والعدل بين أفراد الشعب، من زمن طويل. لكننا نعرف جميعا إن هذا لم يحدث حتى الآن، والسؤال هو: لماذا؟. والجواب ببساطة لأن مجتمعنا يفتقد إلى ما يسمى «وعى الشعب». وقبل أن نتحدث عن الكيفية التى بها يكتسب الشعب وعيا، علينا أن نُعَرف فى البداية ماذا نقصد بمصطلح «الشعب».
***
الحقيقة أن الإجابة عن سؤال مثل هذا ليست من السهولة بمكان، فهناك مبدأ فلسفى يقول: «لا توجد إجابات سهلة لأسئلة صعبة»، وسؤال ما معنى مصطلح «الشعب»؟ سؤال صعب أو هو السهل الممتنع، وهذا يدل على أننا تعودنا على ترديد مصطلحات رنانة نحن لا ندرك معناها أو مفهومها، مثل «الوحدة الوطنية»، وتجدنا نستخدم هذا المصطلح كثيرا فى الخطب والمقالات السياسية، كذلك تعبير «النسيج الوطنى»، وهذان التعبيران فى رأيى هما تعبيران فى منتهى السوء، ونحن نرددهما بدون فهم أو وعى، فهما تعبيران يتسمان بالتسلط وينفيان التعددية السياسية والدينية والثقافية. إن هذين المصطلحين ديكتاتوريان شموليان، يمنعان أى شخص أن يُعبر عن ذاته مصرحا أنه مختلف مع الأكثرية. فالذى يُريد أن يُعلن على الملأ أنه مختلف عن النسيج الوطنى، هو ليس مسلما، ولا مسيحيا، وأنه مصرى ملحد، أو لا دينى، أو بهائى، أو شيعى... إلخ، وبالتالى يُنبذ ويُضطهد من الجماعة الوطنية. وعلينا أن ندرك أنه فى الديمقراطيات الحقيقية لا يستخدمون هذه التعبيرات العامة، (النسيج الوطنى والوحدة الوطنية)، التى تُجنب أعدادا ليست بقليلة، بل لا يصفون الشعب بصفات عاطفية تشمل الجميع بلا استثناء. إنهم يعطون حق الاختلاف للأفراد على أساس دينهم أو عرقهم أو انتماءهم السياسى أو الجنسى... إلخ. لذلك هذه المصطلحات التى نلوكها دون فَهم، ونفرز ونعاقب من يرفضها لأنه يرفض فكرة الجسد الواحد للشعب الواحد، حتى لا يذوب فى الأكثرية من أى نوع، إنما يدمر كل أمل فى تحقيق ديمقراطية حقيقية.

فى هذا السياق، شاهدت أخيرا برنامجا على قناة فضائية مصرية، استضافت أحد الشيوخ المعتمدين، مع شاب جامعى، واضح أنه مثقف خريج مدرسة خاصة. وعرفت من مجرى الحديث، أنه مدعو للحوار، وكان الشاب واضحا فقال: أنا ملحد. وإذ الدنيا تقوم ولا تقعد، ويتهمه فضيلة الشيخ أنه مريض نفسيا، ويحتاج إلى علاج، وحاول الشاب أن يعبر عن نفسه، فإذ بالمذيع يطرده من الاستوديو، ويكذب قائلا: أنه لم يكن يعرف أنه كذلك، ولم يعطه فرصة ليعبر عن نفسه خشية أن يتهمونه بأنه متواطئ معه. والسؤال: هل عندما نريد أن نُعَرف مفهوم الشعب المصرى، أو النسيج الوطنى، نقول: «المصريون عدا الفئات التالى ذكرها... إلخ». إن هؤلاء الوطنيين المختلفين عن الأكثرية فى البلاد الديمقراطية العريقة، يحميهم القانون، ويسجن من يرفضهم، أو حتى من يسىء إليهم، ويعتبرون وجودهم مصدر قوة لترسيخ الديمقراطية الواعية، ووعى الشعب، ولعلنا نلاحظ أن هذه التعبيرات، (الوحدة الوطنية والنسيج الوطنى)، تبرز وبقوة عندما يحدث خلاف ما بين مسيحيين ومسلمين على بناء كنيسة، أو مشكلة طائفية ما، والهدف من إبراز هذه المصطلحات الرنانة هو رفض تناول المشكلات بموضوعية وعمق، وعدم الرغبة فى حلها بشكل جذرى، وعلى حد تعبير نبيل عبدالفتاح: «هى مجازات سياسية دفاعية للكف عن الأسئلة، وبحث الأزمات، وهجومية على من يريد استقصاء الأعطاب البنائية، فى هياكلنا ومؤسساتنا ونظامنا الاجتماعى والسياسى».
نعود لسؤالنا الرئيسى ماذا نعنى بالشعب؟. للشعب مفهومين أوليين: أولهما اجتماعى، والآخر سياسى، فمصطلح الشعب بالمدلول الاجتماعى هو: «جميع الأفراد الذين ينتمون إلى دولة ما، أى النساء، والأطفال، والشيوخ، والمرضى، والمساجين، والذين غاب عقلهم، ومن فقدوا الأهلية السياسية». هذا معنى المصطلح من الناحية الاجتماعية، أما التعريف من الناحية السياسية، فهو يقتصر على من لهم الحق المباشر فى ممارسة الحقوق السياسية. وعندما نقول إن الشعب هو صاحب السلطة، ومصدر السياسة فى الديمقراطيات، فإننا بهذا نقصد معنى مصطلح الشعب بمدلوله السياسى، أى الذين لهم حق الانتخاب. وهنا نأتى للسؤال ما معنى المشاركة؟ وذلك لأن المشاركة تعتبر مقوما أساسيا من مقومات المواطنة، حيث أنها تشتمل على معنى قانونى، فالمواطن هنا ليس مجرد فرد له حضور مادى، لكن هو شخص قانونى، بمعنى أنه يمتلك حقوقا مدنية وسياسية، ويتمتع بالحريات الشخصية، وهى حرية العقيدة والتعبير، وحرية التنقل، والزواج، والحق فى الدفاع عن نفسه إذا مثل أمام العدالة، كذلك له حق الحياة السياسية بالمشاركة، إذ له حق الترشح لتولى كل الوظائف العمومية.

والمواطنة كذلك لها معنى متصل بما يمكن أن نسميه الشرعية السياسية، فالمواطن ليس شخصا قانونيا باعتباره فردا فقط، لكنه أيضا يتمتع بنصيب من السيادة السياسية باختياره لممثليه الذين يُعبرون عنه، وهذا يُطلق عليه: «مبدأ التحقيق الذاتى» والذى يختصر هدف الدولة فى «تحقيق الحرية». فلكى يكون دستور الدولة حقيقيا وصحيحا وشفافا وصادقا، يجب أن يُعبر عن الإرادة والروح العامة للشعب، أى عن إحساس الشعب بالقيمة (الأخلاقية والثقافية والاقتصادية)، كذلك لابد أن يُعبر عن المزاج النفسى للناس، وعن تقاليدهم وطموحاتهم المستقبلية، على حد قول جهابذة الديمقراطية الأوروبية، جان جاك روسو، وعمانوئيل كانط، وهيجل، ولذلك أصبح هذا المبدأ أهم أسس الديمقراطية الحديثة، ومفهوم الحكومة المعاصرة.

***
إن مجرد دراسة دستور من الدساتير، أو مجموعة من القوانين مهما كانت صياغتها قوية وبراقة وجذابة، هذا لا يكفى لقياس مدى التزام هذا الدستور بالديمقراطية، وهذا لا يتحدد إلا بالرجوع إلى الممارسة السياسية على أرض الواقع، لأن التطابق بين النصوص والوقائع على الأرض هو المحدد الوحيد للديمقراطية، مثلما تُحدد مصداقية المواطن مدنيا بالتطابق بين ما يقوله من أمانة وصدق ومواطنة وانتماء، وبما يفعله فعلا على أرض الواقع. وهنا يأتى السؤال: ما هى الظروف التى يمكن فيها أن يلعب الدستور دورا فعالا فى دعم المواطن والدولة والصالح العام؟ يقول أرسطو «العدالة تتكون وتتحقق فقط بما يحقق المصلحة العامة»، وهذا يعنى أننا بحاجة ماسة إلى أن نضع إحساس الناس بالعدالة فى مؤسسات ذات سيادة، وهذا لا يتم إلا إذا أحس الناس أن مؤسساتهم الدستورية (الحكومة بمختلف وزاراتها، ومجلس النواب... إلخ) تحترم سيادة القانون حتى فى الأزمات الحادة التى تمر بها البلاد، لأنه عادة نرى فى أوقات الأزمات حتى فى بلاد الديمقراطيات العريقة، محاولات جدية لاستبدال سلطة القانون بسلطة الإنسان، لكنها تجد مقاومة أكثر فى الدول العريقة فى الديمقراطية نتيجة تاريخ طويل من الممارسة، أكثر من المحدثين بالديمقراطية مثلنا، لذلك نحن نحتاج إلى أن نتأكد بأن الدستور يحتوى على آلية، أو مجموعة من الإجراءات العملية، التى تمنع إساءة استعمال السلطة السياسية عامة، والإساءة إلى العدالة نفسها بصفة خاصة. وهنا يبرز السؤال ما هو الضمان الكافى الذى توفره الديمقراطية باعتبارها «حكم الشعب» وهنا يبرز السؤال «يعنى إيه شعب؟» والإجابة تحتاج إلى كفاح مرير لتحديد هذا المفهوم تحديدا سليما. فالشعب يمنحونه السيادة فى بلادنا بالخطب الرنانة، والبرامج المؤدلجة، وما أسهل سحب هذه السيادة منه، ولقد خلص عياض بن عاشور فى خاتمة كتابه «السياسة والدين والقانون فى العالم العربى» بقوله: «إن الديمقراطية الممنوحة للشعوب العربية ليست إلا فخا جُعل لخداع الأبرياء».

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved