بابا من إفريقيا.. هل يحقق الفاتيكان المفاجأة؟
قضايا عالمية
آخر تحديث:
السبت 3 مايو 2025 - 7:40 م
بتوقيت القاهرة
تشهد الكنيسة الكاثوليكية تحولات ديمغرافية ودينية واسعة، فقد نما عدد الكاثوليك بشكل هائل فى دول مثل نيجيريا والكونغو الديمقراطية، وأصبحت إفريقيا القارة الأكثر توسعًا من حيث عدد الكاثوليك. فى ضوء ذلك، نشرت صحيفة المغرب التونسية مقالًا للمحامى والدبلوماسى السابق، أمين بن خالد، تحدث فيه عن اختيار خليفة البابا فرنسيس، متسائلًا عن احتمالية أن يكون البابا هذه المرة إفريقيًّا، فى ظل التحولات الديمغرافية المشار إليها أعلاه. كما تطرق الكاتب للتحديات السياسية والثقافية داخل الفاتيكان والتى قد تقف عائقا أمام هذا التغيير... نعرض من المقال ما يلى:
لنكن واضحين منذ البداية، لا أحد يستطيع التنبؤ بمن سيكون البابا القادم. ومع ذلك، مع اقتراب المجمع المغلق لانتخاب خليفة البابا فرانسيس، تتزايد التساؤلات حول إمكانية اختيار بابا من إفريقيا للمرة الأولى فى العصر الحديث. هذا الاحتمال يأتى فى سياق تحولات ديموغرافية ودينية عميقة، قد تعيد تشكيل ميزان القوى داخل الكنيسة الكاثوليكية، وتضعها أمام خيارات مصيرية تحدد هويتها فى القرن الحادى والعشرين. فهل ستتمكن الكنيسة من تجاوز تقاليدها الأوروبية الراسخة، أم أن التغيير سيظل مؤجلًا فى ظل تعقيدات سياسية وثقافية داخل الفاتيكان؟
إرث إفريقى منسى.. جذور مبكرة للكنيسة
على عكس الصورة النمطية التى تربط الكنيسة الكاثوليكية بأوروبا، فإن تاريخ المسيحية الأول شهد مساهمات بارزة من شمال القارة الإفريقية التى كانت مركزًا فكريًا وروحيًا فى العالم المسيحى. فقد تولى ثلاثة بابوات من أصول إفريقية منصب الحبر الأعظم فى القرون الأولى: البابا فيكتور الأول (189-199م)، والبابا ميلشيادس (311-314م)، والبابا جيلاسيوس الأول (492-496م). هؤلاء البابوات، الذين جاءوا من مناطق فى شمال إفريقيا مثل قرطاج، لعبوا أدوارًا حاسمة فى صياغة العقيدة المسيحية. فعلى سبيل المثال، اشتهر البابا فيكتور الأول بتثبيت الاحتفال بعيد الفصح فى يوم الأحد، بينما ساهم ميلشيادس فى تعزيز مكانة الكنيسة بعد إعلان الإمبراطور قسطنطين حرية العبادة. أما جيلاسيوس الأول، فقد عزز استقلال السلطة الروحية عن السلطة الإمبراطورية، ممهدًا لفكرة الفصل بين الكنيسة والدولة.
كانت قرطاج، إلى جانب الإسكندرية، مركزًا للاهوت المسيحى؛ حيث ازدهرت كتابات آباء الكنيسة مثل القديس أوغسطينوس، الذى شكل الفكر المسيحى لقرون. لكن مع ترسيخ مركزية روما كعاصمة روحية وسياسية للكنيسة، ومع تراجع نفوذ شمال إفريقيا بعد الفتوحات الإسلامية فى القرن السابع، أصبحت القيادة الكنسية حكرًا شبه تام لأوروبا، وتوارى الإرث الإفريقى فى طيات التاريخ.
اليوم، يعيد النمو السريع للكنيسة فى إفريقيا إحياء هذا الإرث المنسى. ففى ظل دعوات متزايدة لتجديد وجه الكنيسة ليعكس تنوعها العالمى، أصبح الحديث عن اختيار بابا إفريقى رمزًا للانفتاح على واقع جديد. لكن هذا الانفتاح يواجه تحديات عميقة، سواء من الهيكلية المحافظة للفاتيكان أو من الانقسامات الداخلية بين التيارات المختلفة داخل الكنيسة.
واقع ديموغرافى جديد.. صعود إفريقيا
تشهد الكنيسة الكاثوليكية تحولاً ديموغرافيًا غير مسبوق. فبينما تتقلص أعداد الكاثوليك فى أوروبا، موطن الكنيسة التاريخى، تزدهر الكنيسة بوتيرة مذهلة فى إفريقيا. وفقًا لإحصاءات الفاتيكان لعام 2023، يبلغ عدد الكاثوليك فى العالم حوالى 1.4 مليار نسمة، منهم نحو 20% (أى حوالى 280 مليونًا) يعيشون فى إفريقيا. ومن المتوقع أن ترتفع هذه النسبة إلى 25% أو أكثر بحلول منتصف القرن الحالي، مدفوعة بالنمو السكانى السريع وارتفاع معدلات التحول إلى الكاثوليكية فى دول مثل نيجيريا، الكونغو الديمقراطية، أوغندا، وكينيا.
على سبيل المثال، تضم نيجيريا حوالى 35 مليون كاثوليكى وكاثوليكية، مما يجعلها واحدة من أكبر الكنائس الوطنية فى العالم، والثانية فى إفريقيا بعد جمهورية الكونغو الديمقراطية التى تضم حوالى 55 مليونا. كما تشهد دول مثل أوغندا (16 مليون شخص كاثوليكى) وكينيا (12 مليون شخص كاثوليكى) نموًا مماثلًا، مدعومًا بالمشاركة النشطة فى الحياة الدينية. هذا التحول الديموغرافى يعكس تغيرات عميقة فى مركز ثقل الكنيسة، حيث أصبحت إفريقيا القارة الأكثر توسعًا من حيث عدد الكاثوليك، بمعدل زيادة سنوية يبلغ 3.31%.
فى المقابل، تواجه الكنيسة فى أوروبا تحديات العلمنة، وتراجع الحضور فى الكنائس، وانخفاض عدد المنضمين إلى الرهبنة. ففى دول مثل فرنسا وألمانيا، تتناقص أعداد الكهنة، بينما تشهد إفريقيا ازدهارًا فى الدعوات الكهنوتية، حيث تضم نيجيريا وحدها آلاف الشباب الذين يلتحقون بالإكليريكيات سنويًا. هذه الأرقام تثير تساؤلات حول مدى استمرارية هيمنة الكرادلة الأوروبيين على المجمع المغلق، الذى يضم حاليًا 140 كاردينالاً مؤهلاً للتصويت، 40% منهم من خارج أوروبا.
رهانات سياسية ودينية.. البابا الإفريقى كرمز للتغيير
اختيار بابا إفريقى لن يكون مجرد قرار دينى، بل سيكون له أبعاد سياسية ودبلوماسية بعيدة المدى. ففى ظل التنافس الدولى المتزايد على النفوذ فى إفريقيا، بين قوى مثل الصين، الولايات المتحدة، وروسيا، يمكن أن يعزز اختيار بابا إفريقى من مكانة الفاتيكان كقوة دينية وأخلاقية مستقلة. إفريقيا، بمواردها الطبيعية وأهميتها الجيوسياسية المتزايدة، أصبحت ساحة للصراع الدولي، واختيار بابا من القارة قد يمنح الكنيسة دورًا أكبر فى الوساطة الدبلوماسية، خاصة فى قضايا مثل السلام والتنمية المستدامة.
كما أن هذا الاختيار قد يساعد الكنيسة على تجاوز إرثها الاستعمارى، الذى لا يزال يثير حساسيات فى القارة، حيث ارتبطت فى أذهان البعض بالمبشرين الأوروبيين الذين رافقوا الاستعمار، مما يجعل من البابا الإفريقى رمزًا للمصالحة التاريخية.
على المستوى الداخلى، يمكن أن يمثل البابا الإفريقى جسرًا بين التيارات المحافظة والإصلاحية داخل الكنيسة. فالكنيسة الإفريقية معروفة بمواقفها المحافظة فى قضايا مثل الأخلاقيات الجنسية والأسرة، مما قد يطمئن المحافظين فى الفاتيكان. فى الوقت نفسه، تتميز الكنيسة الإفريقية بحساسيتها تجاه قضايا العدالة الاجتماعية، مثل الفقر والتغير المناخى، وهى مواضيع تجد صدى لدى الإصلاحيين الذين يدعمون رؤية البابا فرانسيس.
لكن هذا الاختيار لن يكون خاليًا من التحديات. فالهيكل الإدارى للفاتيكان لا يزال يسيطر عليه الأوروبيون، الذين يشغلون معظم المناصب العليا فى الكوريا الرومانية، الهيئة الإدارية المركزية للكنيسة. هذه الهيمنة قد تعيق إصلاحات جذرية تهدف إلى إعادة توزيع السلطة داخل الكنيسة. بالإضافة إلى ذلك، قد تواجه فكرة «أفْرَقة» الكنيسة تحفظات ثقافية من بعض الكرادلة، الذين يرون فى التقاليد الأوروبية جوهر هوية الكنيسة. علاوة على ذلك، فإن الانقسامات داخل المجمع المغلق بين المحافظين، الذين يدعون إلى التمسك بالعقيدة التقليدية، والإصلاحيين، الذين يسعون إلى مزيد من الانفتاح على العالم الحديث، قد تطغى على النقاش حول هوية البابا القادم.
مرشحون محتملون من إفريقيا
على الرغم من أن المجمع المغلق يحيط قراراته بالسرية، فإن هناك أسماء بارزة من إفريقيا تتردد كمرشحين محتملين. من بينهم الكاردينال بيتر توركسون من غانا، الذى يترأس دائرة التنمية البشرية الشاملة فى الفاتيكان، ويُعرف بمواقفه الجريئة فى قضايا العدالة الاجتماعية، مثل مكافحة الفقر ودعم الأشخاص المهاجرين. كما يبرز الكاردينال روبرت سارا من غينيا، وهو شخصية محافظة تتمتع بتأثير كبير بين الكرادلة التقليديين، خاصة بفضل كتاباته حول أهمية العودة إلى الجذور الروحية للكنيسة. هؤلاء المرشحون يجسدون التنوع الفكرى والثقافى داخل الكنيسة الإفريقية، لكنهم يواجهون تحديات مشتركة، مثل الحاجة إلى بناء توافق بين الكرادلة من مختلف القارات، والتغلب على الصور النمطية التى قد تربط قيادتهم بقضايا إقليمية فقط.
هل يكون 2025 عام المفاجأة؟
رغم أن احتمال اختيار بابا إفريقى يبقى غير مؤكد، فإن تاريخ الكنيسة يظهر أن المجمع المغلق قادر على اتخاذ قرارات غير متوقعة ذات دلالات سياسية وروحية عميقة. فعلى سبيل المثال، عندما تم انتخاب البابا يوحنا بولس الثانى فى عام 1978، كان أول بابا بولندى وغير إيطالى منذ قرون، وكان اختياره بمثابة موقف استراتيجى للكنيسة فى سياق الحرب الباردة ضد الكتلة السوفييتية، حيث ساهم بشكل كبير فى تعزيز المقاومة الروحية والسياسية ضد الشيوعية فى أوروبا الشرقية، لا سيما فى بولندا من خلال دعمه لحركة «التضامن». وبالمثل، عندما تم انتخاب البابا فرنسيس فى عام 2013، كان أول بابا من أمريكا اللاتينية، ويمثل اختياره نقطة تحول فى تاريخ الكنيسة بفضل تركيزه على قضايا العدالة الاجتماعية والحوار مع العالم الحديث. إذا تحقق اختيار بابا إفريقى فى 2025، فسيكون بمثابة إعلان واضح عن التزام الكنيسة بتنوعها العالمي، وربما يفتح الباب أمام إصلاحات هيكلية داخل الفاتيكان تهدف إلى تمثيل أفضل للكنائس الناشئة فى الجنوب العالمى.
لكن هذا الاختيار لن يكون نهاية التحديات. فالبابا الإفريقى سيواجه توقعات هائلة من الكاثوليك فى القارة، الذين يرون فيه رمزًا للأمل والتغيير. ففى إفريقيا، حيث يعانى الملايين من الفقر والنزاعات، سيتعين على البابا الجديد أن يعالج هذه القضايا بطريقة تجمع بين الروحانية والعمل الملموس. كما سيتعين عليه التعامل مع القوى التقليدية داخل الفاتيكان، التى قد تقاوم أى تغييرات جذرية تهدد هيمنتها. بالإضافة إلى ذلك، سيكون عليه مواجهة قضايا عالمية معقدة، مثل التغير المناخى، الهجرة، والحوار بين الأديان، فى سياق يتطلب توازنًا دقيقًا بين الانفتاح على العالم الحديث والحفاظ على التقاليد العقائدية.
لحظة حاسمة للكنيسة
بينما يترقب العالم نتائج المجمع المغلق، يبقى السؤال مفتوحًا: هل ستتجاوز الكنيسة الكاثوليكية تقاليدها القديمة لتتبنى قيادة تعكس تنوعها العالمى، أم أن التغيير سيحتاج إلى وقت أطول؟ الإجابة لن تحدد فقط هوية البابا القادم، بل ستشكل أيضًا مسار الكنيسة فى القرن الحادى والعشرين. إن اختيار بابا إفريقى قد يكون خطوة تاريخية، لكنه سيحتاج إلى شجاعة وإرادة جماعية من الكرادلة لتحقيق هذا الحلم، ولإثبات أن الكنيسة قادرة على أن تكون فعلاً كاثوليكية بمعناها الحقيقى: عالمية وشاملة. فى عالم يتغير بسرعة، قد يكون هذا الاختيار فرصة للكنيسة لإعادة تعريف دورها، ليس فقط كحارسة للإيمان المسيحي، بل كصوت أخلاقى يعبر عن تطلعات ملايين الكاثوليك فى القارة الإفريقية وخارجها.