خمسون عامًا على خمسة يونيو

إبراهيم عوض
إبراهيم عوض

آخر تحديث: السبت 3 يونيو 2017 - 9:30 م بتوقيت القاهرة

مر خمسون منه إلا أن فى الذاكرة 5 يونيو واحدٌ. التعويض فى 1973 عن فاجعة ذلك اليوم لا يعنى محوا له ولا ينبغى.
فى الخامس من يونيو 1967 ترسخت نكبة 1948. الهزيمة واحدة على حلقتين عسكريتين فصل بينهما تسعة عشر عاما. الفترة الفاصلة قصيرة فى حياة الشعوب والأمم. كان المفترض أن مصر قد سارت خلال هذه الفترة على دربِ تقدمٍ يسمح لها بالوصول إلى توازن فى الصراع العربى الإسرائيلى، فاتضح فى ذلك اليوم أنها ضلّت الطريق. ذكرى مرور خمسين عاما أليمةٌ ولكنها فرصة للتفكّر فى أسباب الهزيمة وفى نتائجها وآثارها على أحوالنا فى نصف القرن المنصرم منذ ذلك الحين.
كانت الهزيمة فى 1948 واحدة من سببين رئيسيين لحركة الجيش المصرى فى يوليو سنة 1952، تلك الحركة التى تحولت بمرور السنوات العشر الأولى على قيامها إلى ثورة فى أحوال البلاد. الهدفان الرئيسيان للحركة كانا علاج هذين السببين. نجح النظام الناشئ عن ثورة يوليو فى إنجاز الهدف الأول وهو جلاء القوات البريطانية عن مصر وذلك فى إطار الحركة الأوسع، بمنظور تاريخى، لتصفية الاستعمار التى بدأت فى النصف الثانى من الأربعينيات بالرحيل عن الهند وتكرّست فى نهاية الخمسينيات وبداية الستينيات بخروج الإمبراطورية من إفريقيا وآسيا. أما الهدف الثانى للحركة، المذكور أعلاه، وهو إدخال توازن عسكرى وسياسى على الصراع العربى الإسرائيلى، فكان الفشل فيه ذريعا، وبدلا من أن يتحقق تعمّق الاختلال فى التوازن وترسّخ. 5 يونيو كان محصلة للسنوات الخمس عشرة الأولى لثورة يوليو وإيذانا ببدء مرحلتها الثانية، وإن تأخرت هذه المرحلة إلى منتصف السبعينيات من القرن العشرين. لماذا فشل نظام يوليو فى تحقيق الهدف الثانى ووصل بمصر والعرب إلى نقيضه؟ يحسب لنظام يوليو عادة نشاطه من أجل استنهاض الهمّة العربية وفى تصفية الاستعمار ورفع لواء شعوب العالم الثالث، وهذا كله صحيح، ولكنه لم يكن جديدا فلقد كانت له جذورٌ. مصر هى التى دعت إلى إنشاء جامعة الدول العربية فى سنة 1944 وهى التى أقامت حركتها الوطنية ممثلة فى الوفد المصرى علاقات مع حركة الكفاح ضد الاستعمار فى الهند بزعامة حزب المؤتمر. الإنجاز الأساسى لنظام يوليو هو إجراءاته من أجل العدالة الاجتماعية وبثه لمبادئها فى الثقافة السياسية المصرية. بعد إجلاء القوات البريطانية عن مصر كان يمكن تحقيق الغرضين الآخرين معا، الانتصار للعدالة الاجتماعية وتحقيق التوازن فى الصراع العربى الإسرائيلى. فلماذا فشل فى تحقيق الغرض الأخير وماذا كان أثر هذا الفشل على الغرض الأول؟
***
التعسف فى اتخاذ القرار والانفراد به هما السبب فى الفجيعة التى حلّت بنا فى 5 يونيو. منذ سنة 1954، أطفأ النظام كل الإشارات التى يمكن أن توجهه إلى الأخطاء التى يرتكبها حتى يصححها. الأخطاء يرتكبها كل نظام يمارس الحكم ولكن الديمقراطية فيها آليات للتصحيح وهو ما يفتقده النظام السلطوى مثل نظام يوليو وإن حسنت نواياه. من آيات الانفراد باتخاذ القرار إرسال قواتنا المسلحة لحرب استنزاف فى اليمن لم يكن ممكنا الانتصار فيها، ثم وفى غيبة هذه القوات اتخاذ قرارات خاطئة أدت إلى الحرب فى المطارات الحربية المصرية وفى سيناء وإلى الهزيمة المنكرة فيها جميعا. القرارات مثل إغلاق خليج العقبة ونشر القوات فى سيناء، فى وقت لم تكن فيه رغبة فى الحرب لدى القيادة المصرية ولا استعداد، هى قرارات كانت بمثابة المقامرة بمقدرات أجيال من المصريين وغيرهم من العرب، بل وكما اتضح لاحقا كانت نتائجها وبالا على التطور السياسى والاقتصادى والاجتماعى والثقافى فى مصر والبلدان العربية الأخرى. لا يكفى الاحتجاج بسوء النية الإسرائيلية وبالمساندة الأمريكية غير المحدودة لها. سوء النية بين أطراف أى صراع شىء طبيعى ووظيفة الحكم، وواجبه، أن يتحسّبَ لها.
***
عادت القوات من اليمن ونشأ ما يمكن اعتباره جيش الشعب بتجنيد كل من يمكن تجنيدهم من الشباب المتعلم وغير المتعلم وركّز الجيش على المهمة التى يوجد من أجلها وتدرّب فكانت النتيجة نصرا على أرض المعركة وتعويضا عن خسارة 5 يونيو بعدها بست سنوات. ولكن بدلا من أن تكون هذه فرصة للبناء على القرار العقلانى الذى أفضى إلى نتيجة أكتوبر 1973، عاد التسلط فى زمن السلم والتعسف فى اتخاذ القرار، وإن اكتسى بلغة خادعة زائفة تدّعى الاحتفاء بالتعدد وهى تمكر به. بعبارة أخرى، واصل نظام يوليو ممارسته السلطوية ثم تبين أنه فى تجليه الثانى اعتبارا من غداة حرب أكتوبر قد اختار لنفسه طريقا كان الكثيرون قد ارتابوا فيه عند قيام الحركة المباركة فى 1952. لم يكتف نظام يوليو اعتبارا من منتصف السبعينيات بالسلطوية وإنما هو نكص أيضا وتدريجيا عن توجهه الاجتماعى وهيأ المسرح لنشاط اقتصادى منطلق من أى عقال. باختصار، النتيجة غير المباشرة لخمسة يونيو كانت نظاما سلطويا ويمينيا واقتصادا عشوائيا وتفاوتات صارخة فى الدخول والثروات. وكان من آثار النكوص عن التوجه الاجتماعى، من جانب، والتعسف فى اتخاذ القرار أو عدم اتخاذه، من جانب آخر، أن تدهورت ظروف المعيشة، وانهار التعليم، وانتشرت العشوائية فى جميع مناحى الحياة، الاقتصادية وغير الاقتصادية.
مواصلة السلطوية والتخلى العملى عن مُثُل العدالة الاجتماعية صاحبتهما نتيجة ثانية غير مباشرة لخمسة يونيو. التجلى الثانى لنظام يوليو وبعد أن نفض عن نفسه الخطاب الاجتماعى كان فى حاجة إلى خطاب بديل يستند إليه فى استمرار خصومته للديمقراطية والديمقراطيين، وللعدالة الاجتماعية ومن يدعون إليها من ليبراليين تقدميين واشتراكيين وشيوعيين. الخطاب البديل الذى لجأ إليه بانتهازية هذا التجلى الثانى لنظام يوليو هو الخطاب الغيبى. منذ الأيام الأخيرة لحرب أكتوبر لجأ البعض إلى حجج غيبية لتفسير الانتصارات التى حققها المصريون المنتظمون فى القوات المسلحة فى معاركها. فى هذا التفسير لم يكن نصر المصريين بسبب تخطيطهم وتدريبهم وشجاعتهم وإنما بفضل ملائكة رآها المفسر تحارب فى ميادين القتال. هذا الخطاب ومنذ يومه الأول بدأ فى التمييز على أساس الدين ضد المواطنين الأقباط وفى ازدراء عقيدتهم، فى ظل صمت الدولة وتراجع قوتها النسبية إزاء القائلين به أو تواطؤ عناصر فيها معهم فى بعض الروايات. مدّ خطا مستقيما أو متعرجا منذ منتصف السبعينيات حتى الآن تجد تفسيرا للتوتر وخطاب الكراهية والإرهاب الطائفى المتكرر ضد المواطنين الأقباط، بصرف النظر عما ترتكبه أو تساعد على ارتكابه داعش وأخواتها من جرائم نكراء. هذه الجرائم لم يكن ممكنا ارتكابها من دون التوتر والكراهية والإرهاب الطائفى الذى بدأ بذرُ بذوره عند منتصف السبعينيات أو حتى من بدايتها، ثم أينع، وبئس الينوع، فى ظل بلادة التجلى الثالث لنظام يوليو.
***
المجتمع الآن يتميّز بتفاوتات اقتصادية واجتماعية صارخة وبطائفية وتمييز ضد المواطنين الأقباط، فى الواقع العملى، والأخطر من ذلك، فى خطاب منتشر يبرر الطائفية والتمييز فى ظل غياب مريب لقنوات تنقل خطابات بديلة للمواطنين. هذا خطر داهم على الوطن ينخر فى أسس الدولة الوطنية فيه، تلك الدولة التى إما أن تجتهد لتساوى فعليا بين مواطنيها وإما ألا تكون. الخطاب التمييزى المتعصب والكاره لكل ما لا يتطابق مع القائلين به هو فى جوهره رفض للتعدد، وأساس للسلطوية السياسية والدينية، ومبرر للتعسف فى اتخاذ القرارات السياسية والاقتصادية. النقاش قد يثور حول ما إذا كانت ثمة علاقة سببية بين هذا الخطاب، من جانب، والتدهور فى التعليم والصحة العامة والبيئة والاقتصاد، من جانب آخر. لكن ما لا يمكن إنكاره هو أن ثمة علاقة طردية بين هذا وذاك. العلاقة الطردية تكفى لدق ناقوس الخطر فى بلد من 92 مليون مواطنا يعدو حثيثا نحو المائة مليون.
مصر لا تستطيع أن تسكت على التدهور فى التعليم والصحة والبيئة والاقتصاد، لأن مستقبلها ومستقبل المصريين وقف على وضع حدّ لهذا التدهور، ثم عكس اتجاهه نحو التحسن فى كل المجالات المذكورة. الأمن الحقيقى لمصر والمصريين يتوقف على ذلك. مع بعض بلدان أمريكا اللاتينية كانت مصر من أوائل بلدان ما أصبح العالم الثالث التى سلكت نهج الحداثة وأحرزت تقدما فيه منذ بدايات القرن التاسع عشر. حداثة مصر، مثل حداثات بلدان كثيرة فى العالم الثالث، اعترتها آفات وأمراض ولكن كثيرا من هذه البلدان عالجتها وتغلبت على النواقص التى لحقت بها. أكثر من بلدان عديدة صححت مسارها، مصر مؤهلة لعلاج آفاتها وأمراضها إن مارس المصريون حقوقهم فى حرية التعبير والابتكار والتنظيم والتعدد. تاريخ مصر والمصريين فى القرنين التاسع عشر والعشرين شاهدٌ على أنه كلما اتسعت مساحات الحرية انكمشت مظاهر التعصب، وانحسرت أسباب الكراهية، وازدهرت مصر بأبنائها وشعّت على من سواها.
***
5 يونيو كانت هزيمة عسكرية، وبعد خمسين عاما يتضح أنه كان أيضا إيذانا بالتراجع فى البناء المدنى والحداثى. فلتكن ذكراه الخمسون فرصة للتذكير بأنه من أجل مستقبلها ومستقبل المصريين، لا بدّ أن تستأنف مصر تقدمها على نهج الحداثة المبرأة من الآفات والأمراض، الحداثة التعددية والديمقراطية التى تليق بها.

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved