ترف المتع البسيطة

تمارا الرفاعي
تمارا الرفاعي

آخر تحديث: الخميس 4 يونيو 2020 - 1:06 م بتوقيت القاهرة

حين يرحل أهل البيت، أى حين يقرر أفراده السفر أو الترحال، وحين يتوفر لديهم ترف تخطيط الرحلة، غالبا ما يغطون الأثاث بقطع قماش كبيرة أو أغطية أو ملايات لحفظها من التلف ومن الغبار ومن أثر مرور الزمن عليها، قد تكون تلك الصورة حقيقية وقد تكون متخيلة أو مقتبسة من القصص ومرسخة من الأفلام. مساحات داخل البيوت تدخل إليها الشمس بخجل إذ تم إسدال الستائر قبل الرحيل، كما لبس كل شىء ثوبا أبيض وأطبق على المكان صمت تام، لا صوت لعب الأطفال ولا نبرات متغيرة من الكبار حسب موضوع الساعة.
***
أشعر أن أحدهم قد فرش غطاء أبيض فوق العالم فى الأسابيع الماضية، قطع من القماش انسدلت على الناس وعلى العلاقات، ستائر حجبت أشعة الشمس عن المناسبات التى لطالما أقامها أهل البيوت إنما توقفت اليوم. أشعر أن ثمة ثقوب صغيرة فى شيش النوافذ تدخل منها شرائط النور بشكل مائل فيرتطم بقدم كرسى خشبى أو بطرف لوحة زيتية تظهر شاطئ وعائلة تتنزه.
***
هكذا، أسدل أحدهم شيش الشبابيك على بيتى وغطى حياتى بقماش أبيض وها أنا أشعر بأن حياتى كما بنيتها على مدى سنوات قد تسمرت فى أرضها، أنظر إليها من خارجها فلا أرى شيئا فى اللحظات الأولى بسبب قلة الضوء لكنى أقرر أن أتبع الأشعة المائلة المتسللة من خلال الثقوب: ها هو ركنى المفضل أجلس فيه مع صديقتى فى يوم قاهرى ربيعى مثل هذه الأيام التى نعيشها إنما فى زمن يبدو الآن شديد البعد عنى، هذا شعاع آخر يدخل من ثقب ويرمى بنوره على أطفالى فى غرفتهم، شعاع ثالث أمشى خلفه فيكشف لى عن امرأة تشبهنى تقف فى المطبخ تعد وجبة احتفالية سوف تفردها أمام أصدقائها فى المساء.
***
كم هو بعيد ذلك البيت حين أتلصص عليه من خلف شيش الشبابيك وكم هى بعيدة تلك الحياة كما أراها من تحت الغطاء الأبيض، صداقات أعرف أننى أحاول أن أحفظها من مرور الزمن عليها فأغطيها برفق حتى أعود إليها، وجوه أحبها لكنى أعرف أننى لن أتمكن من تقبيلها فى الفترة القادمة فأفرش فوقها قماش ناعم عطرته بصابون الغار، ثمة رائحة للموت فى القماش وفى صابون الغار أحاول تجاهلها، فالقطن والغار يحملان أيضا روح العيد والاحتفال.
***
لن ألتفت للموت وسأركز على العيد، عيد لقائى بمن أحب، عيد شمس قوية تدخل بعزم إلى حياتى من جديد بعد أن أفتح الشيش عن شبابيك البيت وأسمح للهواء أن يسرح فى الصالة، عيد العودة إلى الحياة وإلى تفاصيل يومية رميت عليها قماشا أبيض حتى لا تهرب وحتى أتأكد أنها سوف تبقى هنا بانتظار عودتى.
***
ثمة ربيع أريده أن يعيد الألوان إلى العالم، ثمة أمل يجب أن نشده إلينا حتى لو غصبناه على البقاء داخلنا. ثمة حياة سوف تفرض نفسها فى بادئ الأمر من خلال ثقوب ثم تفرش تفاصيلها على المكان الخالى، أو هكذا أردد مع نفسى كل يوم، وأنا أعى ترف أن أجلس داخل بيت فى بلد ثانٍ وأشتاق إلى من أحب. ترف الشوق، أليس كذلك؟ ترف أن تخطر على بالى تفاصيل حديث دار من أكثر من عشر سنوات وأتساءل عن أشخاص لم أرهم منذ زمن بعيد.
***
أصبحت أرى الترف فى التفاصيل الحياتية، أظن أننى بدأت أشبه من سبقونى سنا وكنت أصفهم بـ«الختايرة» بلغة بلاد الشام أو «العواجيز» باللغة المصرية العامية، حين كانت أحلامى أكبر من بيتنا وحين كنت أرى أن على ضهرى جناحين سوف أطير بهما حول العالم، كانت جدتى تعدد مزايا الاستيقاظ كل يوم فى سريرها وهى بصحة معقولة وتحمد ربها على نعمة الخبز والجبنة والشاى كوجبة إفطار.
***
متع بسيطة: تعبير يلجأ إليه الكثيرون لوصف مصادر للسعادة قد تبدو للوهلة الأولى باهتة ودون أهمية فعلية، ترف المتع البسيطة: أن توفر الحياة تفاصيل يومية تشكل أساسا للرضا، كأن أعرف أن فنجان القهوة المفضل لدى فى مكانه على رف محدد، وأن أكون متأكدة أن صديقتى التى أفتح لها قلبى تنتظرنى على كنبة قماشها أزرق، أو أن أقف حائرة كل يوم فى نفس المكان وعلى البلاطة ذاتها فى المطبخ وأنا أفكر فى وصفة كانت أمى قد أرسلتها إلى من دمشق.
***
اليوم، وقصص الجائحة والعوز والجوع وانهيار الاقتصاد عند كل الطبقات إلا الأغنياء تملأ الفضاء، أتمسك بترف المتع البسيطة والتى هى فعليا ليست بسيطة على الإطلاق! انتقلت من الرغبة فى التحليق بجناحين فوق العالم إلى الرغبة فى الجلوس على كرسى بعد أن أرفع عنه الغطاء الأبيض فتعود تفاصيل إلى الغرفة، كلمة وضحكة وقصة ورائحة القهوة، هذا هو الترف بالنسبة لى الآن، شباك أفتحه على تفاصيل أتمسك بها فأتمسك بالربيع حتى حين أكون بعيدة كل البعد عنه.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved