للحياة ألف طريقة

نيفين مسعد
نيفين مسعد

آخر تحديث: الخميس 3 يونيو 2021 - 9:15 م بتوقيت القاهرة

مَن يشاهد هذه البهجة الغامرة على شواطئ مدينة غزة بعد أحد عشر يومًا داميًا عاشهم أهلها يظن أن لا هذه السماء هي نفس السماء ولا هؤلاء الناس هم نفس الناس. ألوان.. ألوان.. ألوان في كل مكان، أب يلقي ابنته عاليًا في الهواء ثم يتلقفها فيهتز ذيل الحصان القصير أعلى رأسها ويبعث للمكان بذبذبات حب بلا عدد، مراجيح منصوبة على بعد خطوتين اثنتين من ماء البحر يسابق ركّابها رذاذ الموج فيعلون على الرذاذ حينًا ويعلو من فوقهم أحيانًا، جَمَل نعم جَمَل بذاته وإمكانياته يظهر في المشهد مستمتعًا بالطقس اللطيف وحصان صغير يجّر عربة مملوءة بعوامات وبلالين ملونة تخطف الأبصار.
أما هناك فتوجد فتاتان تضحكان وتلتقطان صورة سيلفي والبحر يبدو في خلفية الصورة ولا أروع من ذلك. آه لو يدري هذا البحر الوديع كم من الصراعات تدور عليه وفيه ومن حوله لتغير الأمر، لكن من أين أتاني الوهم أن البحر لا يدري؟ أولا تخترقه تلك الصواعق والقذائف التي تنافس الدر الكامن في أحشائه؟ بلى إنه يدري لكنه يطوي غضبه وينساب موجة تلو موجة. على شواطئ غزة لا إرادة تعلو على إرادة الحياة، وهؤلاء المصطافون الذين يملأونه سعادة- قلوبهم متشحة بالسواد فأكثرهم راح منه عزيز عليه في العدوان الأخير.. ابنة أو أخ أو فِي القليل جار. استدرك أهل غزة فرحة العيد التي حرمتهم منها آلة القتل والتدمير فاحتفلوا بالعيد لكن بأثر رجعي. ولا توجد مشكلة في ذلك فعيد غزة هو حين يقرر أهلها أن يحتفلوا به، واليوم أو غدًا أو بعد غد سيمضي الشابات والشبان الذين كانوا قد تواعدوا على الزواج خلال العيد في تنفيذ مشروع العمر بفارق بسيط في التوقيت، سيعمّرون عشرات البيوت الفلسطينية الجديدة وسوف تتجدد دورة الحياة. على البعد هناك توجد فساتين زفاف معلقة تقريبًا في الهواء بعد أن استعرضت طائرات إف٣٥ عضلاتها على المحلات والأبنية بما فيها ومن فيها. سبق أن رأيت نفس المشهد طبق الأصل في ضاحية بيروت الجنوبية بعد العدوان الإسرائيلي على لبنان عام ٢٠٠٦، كانت فساتين الزفاف ترفرف وسط الركام ولا تبالي، فقط تسلل إلى بياضها الناصع قليل من لون الرماد.
***
إن الحياة قرار، وفِي اللحظة التي يتخذ فيها أحدنا القرار بمواصلة الحياة يكون عليه أن يهيئ نفسه كي يتحمل ويصمد ويستمر، وفي قطاع غزة كما في كل فلسطين المحتلة اتخذ الناس قرارًا جماعيًا بالحياة، وكثيرًا ما تتفتق أذهانهم لمواصلة الحياة عن حلول مذهلة. وصف الحلول بأنها مذهلة مقصود تمامًا لأن فيها من الإبداع والقسوة ما لا يخطر على بال بشر. لقد اجتث القصف الإسرائيلي المجنون أسرًا كاملة من جذورها: الأبوين والأبناء وأحيانًا أكثر من ذلك، وتكررت هذه الجريمة عدة مرات بسبب طبيعة الاستهداف، فإذا كنّا قد سمعنا من قبل عن حرب المدن والناقلات والشوارع والمخيمات والعصابات.. إلخ فأظن أن هذه الحرب يمكن أن نطلق عليها حرب البنايات، فكم من بناية شاهقة تباهي الطيران الإسرائيلي بتحويلها إلى كوم من التراب في لمح البصر على مرأى من العالم كله ومسمع. إن الفلسطينيين ليست لهم إلا الجذور الضاربة في أعمق أعماق الأرض وإلا المفاتيح التي تفتح أبواب بيوت قديمة لم يعد لها وجود، لكن تلك المفاتيح أشبه ما تكون بالأدعية الموجودة في كتاب "مفاتيح الفرج"، فهي مثلها تطمئن الخاطر وتطّيب الجراح وتعطي الأمل. وإذا كان الاجتثاث من الأرض هو حلم كل مستعمر فإنه يمثّل كابوسًا لكل صاحب حق، لذلك وفِي مواجهة حرب البنايات المجنونة اهتدى رب أسرة فلسطينية إلى التفكير التالي: أن يودع اثنين من أبنائه لدى جاره الذي لا يسكن معه في نفس البناية، ويأخذ من جاره اثنين من أبنائه ليقيما معه في بنايته هو، حتى إذا قُصفت إحدى البنايتين دون الأخرى ظل هناك أثر ورائحة ونسل من عائلة فلان على قيد الحياة في البناية الثانية! واقع الأمر إن المرء يحتار أمام هذا الحل الفريد من نوعه ولا يدري بماذا يصفه على وجه التحديد، هل يصفه بالحكمة لأنه منع اندثار بيت فلان- كما يقول أهلنا في فلسطين- من على وجه الأرض؟ أم يصفه بالمغامرة لأنه طالما كانت العشوائية هي سمة القصف فمن يَضمن ألا تُقصَف البنايتان معًا ويُقتل الأولاد هنا وهناك؟ هل هو يعبّر عن شجاعة نادرة لأن صاحب القرار يقبل بنفس راضية التضحية المُحتملة باثنين من فلذات أكباده؟ أم أنه يجسّد قمة القسوة لأن في عملية التبادل تمييز بين من يبقى مع الأب ومن يذهب مع الجار؟ الأسئلة تخفي وراءها الحقيقة الأكثر إيلامًا من كل شيء، حقيقة أن الطفولة في فلسطين تدخل في بنك الأهداف الإسرائيلي وعلى أوسع نطاق ممكن.
***
الاحتفال بالعيد على شواطئ غزة هو طريقة للاحتفال بالحياة نفسها وبمن لازال حاضرًا فيها، ومبادلة الأبناء لإنقاذ من يمكن إنقاذه منهم هو مناورة للموت والتفاف عليه لتستمر الحياة ولو بألم كبير. أما إن سألني أحد في هذه اللحظة عما أتمناه فإنما هو خبر يطمئنني على هذا الأب الفلسطيني الفريد الذي لا أعرفه والذي أتمنى من كل قلبي أن يكون بين المحتفلين على شواطئ غزة لكن... بكامل أبنائه لم ينقص منهم أحدٌ لا في بنايته هو ولا في بناية جاره.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved