الدعم والأسعار وقرارات الإصلاح

مدحت نافع
مدحت نافع

آخر تحديث: الإثنين 3 يوليه 2017 - 10:35 م بتوقيت القاهرة

كلما أقبلت الحكومة المصرية على اتخاذ قرارات اقتصادية جديدة انقسم الناس إلى فريقين رئيسيين، فريق يرى القرارات وكأنها عذاب خالص يصب فوق رءوس المواطنين، وأنها نتاج لمخطط شيطانى من أعضاء الحكومة لزيادة الأعباء على الشعب! وفريق يرى القرارات سبيل الإنقاذ الوحيد، وطريق الإصلاح الذى ليس منه بد ولا يوجد له أى بديل! وبين الفريقين يتوه الرأى المتخصص الموضوعى الذى يبحث عن أفضل الحلول بأقل التكاليف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية على السواء.
ويزيد من اشتعال أزمة الانقسام بين المواطنين حول رأى ومسألة، تلك النبرة الكريهة التى تسود حوار المختلفين فى الرأى والتى تتحوّل إلى اختلاف فى المنهج والمبدأ والمعتقد، ومنه إلى تبادل الاتهامات بالتخوين والعمالة! وكأن شعبا لا يمكنه أن يختلف أفراده بسلام، وكأن أحدا يجب أن يغلب على أمره!. 
بين خيار «التطبيل» وخيار «التقليل» على حد وصف الإعلان الحكومى، هناك خيار البحث عن الحق الذى ليس بالضرورة مصطبغا بلون أبيض أو أسود، بل هو مزيج بين عدة ألوان يمثّل كل لون منها بديلا قابلا للتطبيق.
المسألة ليست «أهلى» و«زمالك».. «مع» أو «ضد» التى يستريح لها المصنّفون المفتشون فى الضمائر. المسألة مقادير وتوقيتات وقدرة على تشخيص المرض الاقتصادى بدقة، وتلك تتفاوت بين أهل الاختصاص ناهيك عن سائر العوام. لا بأس إذن أن يختلف الرأى الاقتصادى كما يختلف الرأى الطبى والرأى الهندسى وتلك علوم تجريبية تزداد فيها درجة اليقين عن علم الاقتصاد الذى هو فرع من العلوم الإنسانية.
القرارات الحكومية الأخيرة برفع الدعم عن المحروقات، والتى وضعت تحت عنوان قرارات الإصلاح الاقتصادى، وعرفت شعبيا بقرارات الصندوق، فى إشارة إلى صندوق النقد الدولى واتفاق القرض الأخير الذى يبلغ 12 مليار دولار تحصل عليها مصر فى ثلاث سنوات على دفعات، لا تعدو أن تكون برنامجا حكوميا أقره الصندوق، واستمراره وفقا للجدول الزمنى مشروط باستقرار الأوضاع الاجتماعية، وعدم تفشّى الفقر والتضخم الجامح.. وغيرها من أعراض مدمّرة للاقتصاد. ومن هذا المنطلق تقوم بعثة صندوق النقد بالاجتماع دوريا مع مسئولى الحكومات المدينة بغرض التقييم المستمر لأثر السياسات المتّبعة و«ترشيدها» كلما كان ذلك ضروريا. ليس مطلوبا إذن أن تعكس الحكومة المصرية صورة وردية للظروف المجتمعية تحت وطأة قرار التعويم وسائر القرارات الاقتصادية التى أعقبته ونتج عنها موجات تضخمية غير مسبوقة وارتفاع كبير فى تكلفة الدين العام وفى مستوى هذا الدين إلى الناتج المحلى الإجمالى. بل إن رد فعل رئيس بعثة الصندوق بخصوص زيادة التراجع فى قيمة الجنيه مقابل الدولار عمّا كان متوقعا كان من الممكن البناء عليه لإعادة توجيه الجدول الزمنى لخطة الإصلاح، وربما إعادة وضع أولويات الإصلاح وترشيد فلسفته لتصب بشكل أفضل فى مصلحة المواطن.
معظم قرارات الإصلاح مؤسسة على فرضية حكومية غير سليمة مفادها أن المواطن لديه فوائض مالية غير ضرورية، وأن تلك الفوائض يجب أن تعود إلى الحكومة لأنها أكفأ منه فى تخصيص الموارد!.. لكنّ المنطق يخبرنا أن المواطن الفرد والمؤسسة أكفأ فى تخصيص الموارد من الدولة، وأكثر حرصا على المال الخاص من حرص موظف الدولة على المال العام، وفى سبيل ذلك هو يدخر ويستثمر ويساوم ويفاوض للحصول على أفضل الشروط وأفضل الأسعار فى مختلف الصفقات. لا يعنى ذلك الكفاءة المطلقة فى تخصيص الموارد من قبل كثير من الأفراد، خاصة أولئك الذين يستخدمون العقارات مخزنا للقيمة، فيتضرر الاقتصاد من تحوّله إلى اقتصاد ريعى ومن فقاعات تتضخم فى أسعار العقارات ومن فرصة بديلة لاستثمار تلك الأموال فى نشاط منتج، هنا يجب على الدولة أن تتدخل لفرض ضرائب عقارية كبيرة وتصاعدية على ملاك الوحدات الإضافية، فيكون موردا هاما للموازنة العامة ومحفّزا لتشغيل رءوس الأموال المختزنة فى هذا الوعاء الميت.
الدولة غنية ودائنة لعدد من القطاعات والفئات ولا حاجة لديها لفرض أعباء جديدة على الفئات المطحونة والملتزمة بدفع ضرائبها بالفعل. هناك أصول ميتة لا تحصل منها الدولة على حقها بغرض إعادة تدويرها فى الاقتصاد المنتج، وهناك ملايين الهكتارات المخصصة لأنشطة استثمار عقارى لم تحصل منها الدولة على عائد مناسب، وهى استثمارات قائمة على بيع الوحدات (على الماكيت) بحيث تموّل بالكامل من جيوب المواطنين!. وهناك مليارات الجنيهات فى قضايا التهرّب الضريبى، ومثلها فى قضايا سرقة المنافع العامة مثل سرقة التيار الكهربائى..
لا ينكر أحد أن الموازنة العامة منهكة، وواضح فيها الحرص على تحقيق فائض أولى كمؤشر للاقتدارالمالى نغازل به الصندوق والشركاء الدوليين فى المقام الأول، لكن الضغط على المواطن من خلال تخفيض المصروفات المرتبطة بشبكة الحماية الاجتماعية كان واضحا فى مشروع الموازنة الأولى، وذلك قبل أن يتداركه الرئيس بقراراته السبعة للتخفيف على محدودى الدخل. كذلك لا ينكر أحد زيادة استهلاك المواد البترولية بصورة كبيرة والتى ارتفعت من 50 مليون طن سنويا عام 2007/2008 إلى نحو 80 مليونا عام 2017/2018 بزيادة تصل إلى 60%. لكن تحريك أسعار تلك المواد يظل حلا مباشرا وسهلا لأزمات الحكومة المالية وكنت أرى تأخيره بعد استنفاد جميع بدائل تحسين كفاءة الإنتاج والتشغيل والتوزيع للخدمات والسلع العامة، التى من شأنها تخفيض التكلفة على الحكومة، ومن ثم تخفيض فاتورة الدعم تلقائيا.
الدعم لم يعد يمثّل العنصر الأكبر فى المصروفات الحكومية، حتى بند الأجور الشهير لم يعد فى المرتبة الأولى فى بند المصروفات بعد أن تربّعت خدمة الدين العام على قمة المصروفات الحكومية بأكثر من ثلث الموازنة الجديدة. تضخّم الدين العام هو الأكبر والأخطر على الاقتصاد، وقدرة خطة الإصلاح المالى والنقدى على تعبئة الاستثمارات لا تعكسها المؤشرات الأولية منذ قرار تحرير سعر الصرف وحتى يوم كتابة تلك السطور، وقد أوضحت فى مقال سابق كيف أن فائض ميزان المدفوعات المحقق أخيرا وانعكاسه على احتياطى النقد الأجنبى يعكس ديونا والتزامات وليس تدفقا للاستثمارات ولا زيادة فى الصادرات. تلك المؤشرات التى تتحرّك ببطء ترفع من فاتورة برنامج الإصلاح، وتجعل ضريبته أكبر كثيرة من عائده المتوقّع.
***
خلاصة الأمر، الصندوق لا يقدّم سحرا والاتفاق معه ليس قرآنا.. فقط يقدّم أو يقر وصفة مبنيّة على تشخيص مبدئى للأزمة، واللقاءات المتتالية مع الحكومات تهدف إلى ترشيد تلك الوصفة، فَلَو أن مسئولى الحكومات جعلوا الوضع يبدو جيدا ولا ضرر يقع على الفئات معدومة ومحدودة الدخل، سيمضى الصندوق قدما فى الكورس العلاجى دون أن يأبه لأعراضه الجانبية القاتلة للمريض!!
لا أحد يريد تشوهات سعرية بفعل الدعم، لكنك لا تصلح فى عام أو عامين ما فسد فى عقود طويلة، لأنك بحاجة إلى إصلاح مؤسسى أولا لضمان تعبئة الفوائض والأموال فى مؤسسات لا تهدر الموارد بفعل الفشل والفساد المتفشى فى أركان الدولة والذى لا ينكره المسئولون.
ختاما، يجب أن نعيد النظر فى بعض القرارات الانكماشية التى يراد بها الحد من التضخم اعتمادا على الأساس النظرى البحت، لأنك قد تتخذ قرارات تؤدى إلى تفاقم الأزمة وإنتاج شكل من أشكال الركود التضخمى، خاصة إذا لم تعِ بشكل سليم أسباب التضخم. فلو افترضت أن ارتفاع المستوى العام للأسعار هو ناتج فقط عن زيادة المعروض النقدى فربما اتخذت قرارا برفع سعر الفائدة لامتصاص المعروض النقدى، لكن لو أدركت أن السبب الفعلى للتضخم هو أزمة نقص فى الإنتاج وتراجع جودته، سيأتى رفع أسعار الفائدة بأثر سلبى نتيجة تثبيطه للاستثمار ومن ثم مزيد من التراجع فى الإنتاج وارتفاع فى تكلفته ومزيد من الركود والتضخم معا. واقع الأمر أن التضخم فى مصر هو نتاج لعدد من العوامل منها ما يتعلّق بطباعة البنكنوت، ومنها ما يتصل بسعر الصرف وأغلبها مرتبط بضعف الإنتاج، ومن ثم تقتضى المهارة الاقتصادية التشخيص الدقيق للمرض الاقتصادى، وتقدير الأوزان النسبية لمختلف الأسباب ووصف الدواء المناسب بناء على هذا التشخيص.

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved