التخطيط للهجرة المعاكسة

محمد الهوارى
محمد الهوارى

آخر تحديث: السبت 3 يوليه 2021 - 7:35 م بتوقيت القاهرة

أحترم محمد صلاح جدا. ليس فقط كنجم كرة قدم محبوب وموهوب. ولكن كنموذج لمحترف جاد. عندما لم يحالفه التوفيق فى إنجلترا مع فريق تشيلسى ووجد نفسه معارا لفريق إيطالى تعامل كمحترف وتعلم اللغة الإيطالية البعيدة عن أصوله الريفية. وذلك بعدما حسن لغته الإنجليزية لمستوى يمكنه من التعامل مع الصحافة دون الحاجة إلى مترجم. وتدرب حتى أصبحت تركيبة جسمه تضاهى لاعبى ألعاب القوى العالميين معطيا لنفسه ميزة بدنية لم يكن يمتلكها فى بداية رحلة احترافه. المضحك أن أحد رؤساء الأندية المصرية قال عنه وقتها أن أسلوب صلاح لا يلائم أسلوب لعب ناديه، فقد استطاع صلاح التأقلم مع عدة أندية وفى دول مختلفة. أدرك محمد صلاح مبكرا أن الاحتراف معناه أنه سيحتاج إلى إثبات نفسه على المستوى الأوروبى بعد أن نجح فى ذلك محليا. وأنه لكى يستمر فى هذه البيئة التنافسية، فيجب أن يطور نفسه سريعا مهنيا وشخصيا. وأنه ليس هناك وقت للراحة، فالفرصة قد لا تأتى مجددا. بغض النظر عن إمكانية النجاح والفشل، فهناك راحة نفسية فى الاطمئنان أنك بذلت أقصى ما فى وسعك. فى معظمه، الاغتراب يقدم تحديا على المستوى المهنى والإنسانى ولكنه من أوجه السعى التى قد تكون أحيانا ضرورية.
ومع ذلك، فقناعتى أنه لا يوجد من يختار الاغتراب لغرض الاغتراب. كنت أتحدث مع صديق عزيز من أنجح النماذج المصرية فى الخارج، قال لى إنه لم يكن ليفكر فى الهجرة لو استوعبه مجال عمله فى مصر، وأنه لو لم يسافر لكان أكثر سعادة بالحياة فى بلده ووسط أهله. فى تقديرى أن المصريين من أنجح المغتربين فى العالم. فى أحد نسخ مؤتمر اليورومنى الذى يقام فى القاهرة سنويا، قلت للحضور أن الإنسان المصرى بطبيعته رائد أعمال يسعى لحل المشكلات غير الاعتيادية فى معظم حياته. من لا يصدقنى فليشهد مفاوضات ركن السيارة بين سائق وسايس. فإذا وضعت هذا الشخص فى مناخ صحى، وأرحت عاتقه من بعض همومه اليومية العادية مثل ركن السيارة، فستوفر من طاقته البدنية والذهنية ما يكفى للإبداع والتفوق. فما بالك لو أصبح هدفنا القومى أن نوفر مناخ أكثر ملاءمة للإنتاج عن طريق حل عدد من المشكلات اليومية التى تواجه المواطن المصرى، مثل المواصلات والصحة والتعليم والبيروقراطية. ماذا لو صارت خطتنا القومية هى الوصول بأحد هذه المجالات أو جميعها إلى مستوى عالمى؟ فكم محمد صلاح وكم أحمد زويل وكم مجدى يعقوب وكم من عباقرة مصريين فى مجالاتهم فى مختلف بلدان العالم سيتمكنون من الإبداع من وطنهم ودون الحاجة إلى سفر واغتراب.
قد يكون هذا الهدف بعيد المنال وصعب التحقيق، فماذا لو كانت محاولاتنا أكثر تركيزا؟ عجيب هذا الوطن وعجيب حبنا له واشتياقنا إلى أهله وغيرتنا عليه. يبقى مثل الشمس التى ندور فى فلكها حتى وإن طالت المسافات. دليل على ذلك أن من أهم مصادر مصر من العملة الأجنبية هى تحويلات المغتربين. هى علامة على ارتباط المصرى ببلده ارتباطاَ وثيقاَ رغم مرور السنين. فلماذا لا نفكر فى استقطاب بعض هذه النماذج للعمل والنهوض بقطاعات بعينها. فقد تبوأ عدد كبير من المصريين الناجحين فى الخارج مكانة دولية مرموقة. من حسن حظى أننى قابلت العديد منهم. فإذا حدثت هجرة معاكسة ممنهجة ومخطط لها للمتخصصين فى بعض القطاعات فهذا كفيل بفتح أبواب للاستثمار والعائدات أضعاف ما نحصل عليه من تحويلات المغتربين سنويا. هو شىء لن يحدث بالصدفة لكن يجب أن يكون مخطط له جيدا على المستوى الحكومى. وقد حدث ما شابه ذلك فى القطاع المصرفى فى مصر فى أوائل هذا القرن. ورغم تحفظى الشديد على هذه التجربة وبعض أعراضها الجانبية القاتلة، إلا أن النتيجة واضحة، فقد أصبح لدينا قطاع مصرفى مستقر وعالى الربحية. بالتأكيد لا أقول أن نكرر هذه التجربة التى شابها بعض العوار ولكن فكرة الاستفادة بالمصريين من ذوى الخبرات المصرفية العالمية منحت مصر مصرفيين مازال بعضهم يتصدر المشهد المصرفى حتى اليوم. ماذا لو كان هذا الاستثمار والحركة فى مجال البحث العلمى مثلا أو جزء منه وطلبنا من الدكتور أحمد زويل التعاون مع جامعة كالتك وقت أبحاث النانو تكنولوجى. ماذا لو بحثنا عن العلماء المصريين المتفوقين وحاولنا إيجاد الأبحاث الواعدة ودعمها ولو جزئيا. أغار من مشهد البحث العلمى فى بعض البلدان النامية الذى يعتمد على المغتربين خاصة فى أمريكا. هم ينشئون شركات متعددة الجنسيات تحمل الجنسية الأمريكية وجنسية بلادهم رغم أن الانجاز يكون بفضل الامكانيات الأمريكية أكثر من أى شىء ولكن تبقى الاستفادة لدولهم موجودة فلماذا لا نبحث عن من ندعمه أو نستقطبه من عباقراتنا المغتربين فى مختلف المجالات. أحلم ألا نكتفى بمليارات تحويلات المغتربين وأن نطمع فى تريليونات براءات الاختراع التى يشارك فيها علماؤنا وأخصائيونا حول العالم. هى ليست فقط استفادة مادية ولكن هى حركة من شأنها أن تحدث طفرة هائلة فى قطاعات حيوية فى وطننا الحبيب.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved