ترامب.. ومبدأ «عدم ضبط النفس»

محمد المنشاوي
محمد المنشاوي

آخر تحديث: الخميس 3 يوليه 2025 - 7:35 م بتوقيت القاهرة

لا تخلو أى تصريحات أو بيانات للمسئولين السياسيين أو الدبلوماسيين المحترفين على مدار العقود الأخيرة من ترديد عبارة «ضرورة ضبط النفس» عند التعليق على أى أزمة خطيرة أو مناوشات أو اشتباكات عسكرية أو عند بروز بوادر أزمة بين دولتين أو أكثر.

فى الوقت ذاته، دلت خبرة الأشهر الخمسة الأولى من فترة حكم الرئيس دونالد ترامب الثانية، على عدم اكتراثه أو اقتناعه بهذه العبارة، بل احتقرها فى أحسن الأحوال.

لا يعد ضبط النفس جزءا من أسلوب أو طريقة ترامب السياسية سواء فيما يتعلق بالشأن الداخلى الأمريكى أو الشرق أوسطى أو العالمى.

وفى سعيه لتجميع أكبر قدر ممكن من السلطات التنفيذية فى يده داخليا، وتوغل البيت الأبيض على الصلاحيات التشريعية والقضائية فى النظام الأمريكى القائم بالأساس على توازن السلطات بين المستوى الفيدرالى ومستوى الولايات وما دونها على مستوى المقاطعات والمدن. وخارجيا، وبعيدا عما يتكرر عن التراجع الأمريكى «الحتمى» والصعود الصينى «المنطقى»، نجح ترامب بوضع نفسه فى قلب الشئون الدولية. ومنذ انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945 وحتى الآن، قادت واشنطن النظام العالمى، وصممت شكل مؤسساته، ومعادلات توازناته، ولم يتأثر ذلك بهوية ساكن البيت الأبيض وميوله الشخصية وانتماءاته الحزبية. ولم يطغ شخص الرئيس أو تفضيلاته على مسلمات ورؤية المصالح الأمريكية كما تنظر لها، وتبلورها، المؤسسات الفاعلة المتنوعة سواء السياسية مثل الكونجرس والوزارات المختلفة، أم المراكز المشاركة فى صنع القرار الأمريكى بصورة أو أخرى مثل الإعلام، ومراكز الأبحاث، والرأى العام. إلا أن ترامب، وخاصة خلال الأشهر الأولى من فترة حكمه الثانية، أظهر هيمنة غير مسبوقة، أمريكيا وعالميا، فيما يتعلق بكل القضايا.
• • •

لم يُظهر ترامب خلال الأشهر الأخيرة إلا الضئيل من ضبط النفس. زلزل ترامب عالم المال والأعمال حول العالم، وداخل أمريكا، بسبب تبنيه العميق لسياسات دراكونية فيما يتعلق بالتعريفات الجمركية على مختلف دول العالم، ودفع ترامب أسواق الأسهم والسندات إلى تأرجح غير مسبوق، ولم يراع أى ضوابط لضبط النفس.

يكره ترامب الحروب الطويلة والمكلفة، ولا يكترث بنشر ما تؤمن به النخبة الأمريكية وتدعى أنها قيما ديمقراطية وليبرالية يجب أن تسود العالم. يحتقر ترامب المنظمات الدولية، ويعامل القانون والمحاكم الدولية بازدراء يراه مستحقا. يستطيع ترامب، فى لحظات، التأثير على ربحية وقيمة وأسهم أكبر الشركات الأمريكية والعالمية. يؤمن ترامب -فقط- بضرورة التوصل لصفقات ثنائية يراها أفضل مما حصلت عليه الولايات المتحدة من خلال النظام متعدد الأطراف، ويؤمن أن ذلك يعظم القوة الاقتصادية الأمريكية بدلا من كبحها.

مرة أخرى، لم تُظهر سياسات ترامب أى ضبط للنفس.

ومنذ خطاب ترشحه، طالب بالحصول على جزيرة جرينلاند واستعادة امتلاك قناة بنما، ناهيك عن ضم كندا. أما أوروبيا، تلهث القارة العجوز خلف الرئيس الأمريكى بلا توقف وبلا فترة راحة لالتقاط الأنفاس سواء فيما يتعلق بالهجوم على الاتحاد الأوروبى، أو التهديد بفض حلف الناتو، وناهيك عن التناغم مع عدو أوروبا الأول الرئيس الروسى فلاديمير بوتين.
• • •

يظهر عدم ضبط النفس عند ترامب بوضوح فى الشرق الأوسط، حيث يسرع محاولا تصفير مشاكل وأزمات المنطقة على حساب الأطراف الأضعف، ودعما لمصالح الحليف الإسرائيلى. ويسعى ترامب لتحقيق هدوء وسلام ترامبى لا يكترث فيه بأى حقوق ثابتة للأطراف العربية سواء فى فلسطين أو لبنان أو سوريا، وكذلك الحال مع إيران. يريد ترامب تحقيق ما فشل فيه 13 رئيسا أمريكيا من قبل بصنع سلام فى الشرق الأوسط، سلام بمعنى الاستسلام، سلام ليس عادلا، حيث لا يكترث ترامب بهذا المبدأ. لا يملك ترامب أى صبر ولا يخفى رغبته فى تحقيق أجندة واضحة تترك هيمنة واشنطن قوية مسيطرة على المنطقة، وتطلق العنان لحليف واشنطن الوحيد بالمنطقة، إسرائيل، لتفعل ما تريد على مختلف جبهاتها الشمالية والشرقية والجنوبية.

لم يملك ترامب الصبر، ولم يمنح إيران إلا شهرين فقط كحد أقصى للتفاوض على اتفاق جديد بدلا من الاتفاق الذى انسحب منه قبل 6 سنوات. ولم يطالب ترامب طهران بضبط النفس، بل طالبها بالاستسلام الكامل والشامل، وإلا فهى الحرب وهو ما كان، ويعتقد ترامب أنه دمر البرنامج النووى للأبد، وهو ما يناقض بعض تقديرات العديد من الخبراء داخل وخارج أمريكا.

لم يطالب ترامب إسرائيل بضبط النفس بعد شنها هجمات مفاجئة على إيران، وامتدح ما اعتبره ضربات إسرائيلية ساحقة مكنتها من السيطرة على السماء الإيرانية. ولم يطالب ترامب طهران بضبط النفس بعد أن ضربتها القاذفات الأمريكية بأكبر قنابل خارقة للتحصينات فى العالم، وطالبها فقط بالتريث والحكمة فى الرد، وهو ما كان.
• • •
فهمت إسرائيل ترامب بشدة، وساعدها لوبى يهودى أمريكى قوى حيث تتضح الأهداف فى إطار المصالح الأمريكية الصلبة فى الشرق الأوسط. تقدم إسرائيل لترامب ما يريد وتأخذ منه ما تريد، وتتحدث لغته بوضوح سواء المصلحية أو اللفظية.

ومن منطقة وثقافة وإقليم مختلف، وعلى النقيض من الفهم الإسرائيلى لترامب، قدم الرئيس الصينى شى جين بينج نموذجا آخر للمواجهة مع ترامب. تصعيد مقابل تصعيد، تهديد مقابل تهديد، مع الاستعداد لمواجهة طويلة الأجل سواء كانت تجارية أو عسكرية.

استعمل ترامب الغموض كاستراتيجية ناجحة حتى الآن، وفى الوقت الذى يخشى فيه المعلقون الأمريكيون من تضخم وغرور ترامب بما يستسهل معه تحقيق أهداف خارجية صعبة فى عالم متشابك وشديد التعقيد. وفى الوقت الذى تدعم فيه قوة الولايات المتحدة التكنولوجية والعسكرية من مهام ومطالب ترامب، وتسهل تحقيقها بما لا يتطلب منه «ضبط النفس»، إلا أن الصين وحدها تستطيع دفع ترامب لطلب «ضبط النفس» حال الوصول لمواجهة لا تفيد الولايات المتحدة، ويستحيل معها تحقيق الانتصار الساحق الذى يبشر به ترامب.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2025 ShoroukNews. All rights reserved