هذه الانقلابات الإقليمية

عبد الله السناوي
عبد الله السناوي

آخر تحديث: الإثنين 3 أغسطس 2015 - 6:50 ص بتوقيت القاهرة

أمام انقلابات إقليمية فى حسابات القوة وقواعد الاشتباك تكاد تغيب أى سياسات على شىء من التماسك.
لا مراجعة جرت ولا حركة تبدت.
على مدى زمنى قصير طرأ تحولان جوهريان على خرائط أكثر أقاليم العالم اشتعالا بالنيران.
الأول: اتفاق الدول الست الكبرى مع إيران بشأن برنامجها النووى.
وهو اتفاق وقع لينفذ، والعدول عنه مستبعد بأى حسابات استراتيجية واقتصادية فى أى مدى منظور.
لا تعنى المشاحنات الدبلوماسية والإعلامية بين بعض أطرافه أن شيئا سوف يتغير.
فالدول التى وقعته لها رهاناتها التى لا يمكن التخلى عنها بسهولة، ومجلس الأمن الدولى اعتمده.
كل ما يحدث أقرب إلى المناورات، لاكتساب مراكز أفضل فى أى ترتيبات إقليمية مقبلة.
هناك نزعة غربية لتطويع طهران وفق مقتضيات مصالحها الاستراتيجية، تقابلها نزعة إيرانية لتثبيت أدوارها كأكبر قوة إقليمية لا يمكن الاستغناء عنها.
ما بين النزعتين تتداخل ــ على نحو مثير ــ المصالح الاقتصادية مع الاعتبارات الاستراتيجية، والرهان على إيران مع محاولات إرضاء الحلفاء الآخرين فى المنطقة.
هذه حالة سيولة لا مثيل لها، وكل شىء سوف يوضع تحت الاختبار على الأرض.
الثانى: دخول تركيا على خط الاشتباكات المسلحة.
التطور نفسه يفضى إلى أوضاع سيولة مماثلة ورهانات تحت الاختبار.
باسم محاربة «داعش» أعلنت أنقرة تحركها العسكرى، غير أن أغلب الغارات استهدفت مواقع حزب «العمال الكردستانى» فى العراق بأكثر مما استهدفت تمركزات التنظيم المتطرف فى سوريا.
بالقدر نفسه استهدفت حملات الاعتقال نشطاء أكراد بأكثر مما نالت من أنصار التنظيم الإرهابى.
هذا يزكى الاعتقاد العام أن الحملة العسكرية أسبابها داخلية قبل أن تكون إقليمية، فى سعى لتعديل الأوضاع السياسية قبل أى انتخابات نيابية مبكرة.
إنه رهان على النار فى تقليص الحضور السياسى الكردى الذى أفضى إلى خسارة حزب «العدالة والتنمية» أغلبيته البرلمانية.
بصيغة أخرى هو محاولة لتعبئة الرأى العام التركى تحت ضغط مشاعر الخوف للتصويت بالأغلبية مرة أخرى للحزب الذى أسسه الرئيس التركى «رجب طيب أردوجان» بما يسمح له بتعديل نظام الحكم إلى الطبعة الرئاسية؛ ليمسك بمقاليد الدولة وحده.
هذه الألعاب الخطرة بالسلاح لها تداعيات من نفس المستوى فى الإقليم كله.
تركيا وإيران لاعبان محوريان على خرائط المنطقة يضاهيان مصر التاريخية ذات المكانة من حيث الأهمية الاستراتيجية وأحجام السكان.
الاحتمالات كلها مفتوحة على أوضاع سيولة سياسية حول براكين النار، دون أن نرتفع إلى مستوى التحديات الداهمة أو نبنى سياسة جديدة لها القدرة على التأثير فى مجريات الحوادث.
بناء السياسة من بناء الهيبة.
إذا لم تكن قادرا على اكتشاف مواضع أقدامك والتصرف فى الملفات الملغمة بثقة من يعرف أهدافه وطريقه فإن أحدا فى العالم لن يعيرك اهتماما كبيرا.
إذا لم تكن طرفا فاعلا فى الاختبارات الكبرى فإنك موضوع لها.
أول الاختبارات وأهمها الأزمة السورية الدامية.
إيران تحاول تثبيت حلفائها، وتفتح فى الوقت نفسه نافذة على التسوية السياسية.
وتركيا تراهن على «منطقة عازلة» داخل الحدود السورية، دون أن يكون لديها تصور لمن يدير هذه المنطقة.
والمبعوث الأممى «ستيفان دى ميستورا» يتقدم لاختبار فرص التوصل إلى هيئة قيادية تتولى مسئولية إدارة مرحلة انتقالية فى سوريا وفق صيغة «جنيف ١» بعد توقيع اتفاق «فيينا» مع إيران.
اختبار أولى لا أخير، وحركة على رقعة شطرنج فى إقليم يهوى ألعاب «الطاولة».
اللافت أن المبعوث الأممى يضع «داعش» و«جبهة النصرة» فى تصنيف إرهابى واحد، بينما بعض الدول الإقليمية النافذة تدعم الثانية وتصفها بـ«جماعات المعارضة المسلحة».
السؤال هنا: ما تعريفنا للإرهاب؟ وماذا نقصد بجماعاته؟
الارتباك فى الإجابة ينسف موضوعيا أى احتمالات لتوافق على شىء من الاحترام.
وهذا ما يعترض الرئيس التركى بقسوة.
فهو يعلن الحرب على «داعش» دون أن يتخذ أى إجراءات جدية فى مواجهتها.
بعض التقديرات الرسمية تقول إن عدد مناصريها فى حدود ثلاثة آلاف تركى.
وهو متهم من جهات دولية وإقليمية بالتورط فى إمدادها بالسلاح والرجال عبر حدود بلاده مع سوريا.
استخدام ورقة مكافحة الإرهاب لأسباب داخلية لعب بالنار سوف ينال من أمن واستقرار تركيا.
بهذا المعنى حذرت ألمانيا من هجمات محتملة على شبكة قطارات الأنفاق ومحطات الحافلات العامة.
إنه مشروع اضطراب داخلى يلوح فوق جبال الأناضول.
ورغم ما يدعيه «أردوجان» من قوة فإنه سوف يجد نفسه تحت رحمة مؤسسته العسكرية.
فأى دور أمنى هو بالضرورة دور سياسى.
عندما يقول «أردوجان» إن مشروع السلام مع الأكراد مستحيل فهو يدخل فى حرب شبه معلنة مع حسابات حلفائه الدوليين.
لا الاحتواء بالسلام متاح، ولا الحسم بالسلاح ممكن.
تركيا المأزومة تنذر بصفحة جديدة، وكل شىء تحت الاختبار العنيف.
بالمقابل تبدو إيران أكثر ثقة فى نفسها.
تنسق مع التحالف الأمريكى فى العراق بالقرب من حسم «معركة الرمادى»، وتضغط فى الوقت نفسه لوضع حد لأى نزعات عسكرية تركية.
مثل تركيا لا تقبل بدولة كردية تهدد بنيتها الداخلية غير أنها أكثر تأنيا فى التعامل مع الملف الحساس.
الدولة الكردية شبه ممكنة سوريا وعراقيا، وشبه مستحيلة تركيا وإيرانيا.
الكلام فى الخرائط يعنى بالضبط أن كل شىء سوف يتقرر بقوة السلاح أو بصفقات السياسة وفق موازين القوى لا خارجها.
نحن تقريبا خارج كل حساب.
رغم أن الولايات المتحدة وفرت غطاء سياسيا للإجراءات العسكرية التى أقدم عليها «أردوجان»، إلا أن من المرجح أن بطاقات حمراء سوف ترفع فى وجهه.
فلكل لعبة قواعدها واحتمال الحماقات له حدود.
بالنسبة لإيران فهذه فرصة لا تعوض لإثبات قدرتها على الاضطلاع بدور الدولة الإقليمية الكبرى مع الحد الأدنى من الاحتقانات مع الشركاء الغربيين الجدد.
بتلخيص ما إيران تتحسب لخطواتها وتركيا تغامر بمصائرها.
بحسب معلومات مؤكدة أبلغ «آية الله خامنئى» «رجب طيب أردوجان» بعد معركة «جسر الشغور» فى سوريا: «تركيا تجاوزت كل الخطوط الحمراء».
العبارة منقولة عن شخصية لبنانية رفيعة توحى بأن هناك خطوطا حمراء أخرى من داخل الإقليم نفسه.
ليس ممكنا أن يكون هناك تدخل برى تركى فى سوريا، فالعواقب وخيمة.
الأطراف الدولية كلها تترقب وتتحسب قبل أن تشرع بطاقاتها الحمراء.
فى الوقت نفسه تستعد لصفقات محتملة وتقسيمات غير مستبعدة.
أين نحن من ذلك كله؟
هذا هو السؤال الذى يستحق إجابة مختلفة غير البيانات الرسمية المعتادة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved