بين مصيدة الديون ومصيدة الفقر

عاصم أبو حطب
عاصم أبو حطب

آخر تحديث: الخميس 3 أغسطس 2017 - 8:45 م بتوقيت القاهرة

خلال كلمته أمام مؤتمر الشباب الرابع بالإسكندرية، صرح السيسى بأنه فى ظل تعثر الوضع الاقتصادى، ليس أمامنا إلا خيار من ثلاثة: فإما أن «نكافح ونصبر ونوصل بفضل الله»، وإما «أننا نقول مفيش فايدة ونركن» أو«أننا نشحت، والناس مابتشحتش خلاص». وكما هو مفهوم، فقد ذكر السيسى الخيارين الأخيرين من باب الاستنكار والتأكيد على أنه ليس أمامنا فى الحقيقة إلا الخيار الأول. وفى وقت تتداعى علينا ويلات الأزمة الاقتصادية، فإن الإشارة للخيار الأخير «أننا نشحت» ــ أو الاقتراض والاستدانة باللغة الاقتصاديةــ وبهذه الصيغة الاستنكارية لا شك يمثل بصيص ضوء فى نفق القروض المظلم الذى دفعت بنا الأزمة إليه؛ وذلك لكونه يبين ــ على الأقل ــ أن النظام مقدرٌ للخطورة التى تشكلها زيادة حجم الدين الداخلى والارتفاع الجنونى للمديونية الخارجية، ومدرك أنه لا يمكن الاعتماد على الاستدانة على المدى الطويل فى إصلاح عجز الموازنة وتحقيق النمو اللازم للتنمية الاقتصادية. وعلى الرغم من ذلك، فإن سلوك الحكومة الاقتراضى خلال العامين الماضيين ــ على وجه الخصوص ــ والذى اتسم بالتهاون الشديد وافتقاد الشعور بخطورة الديون الناتجة عن القروض، يجعل من غير المنطقى الإسراف فى ترجمة هذا التصريح، ويقتضى ألا تتعدى استنتاجاتنا من مضمونه حدود «حسن النوايا» أو «المراجعة الفكرية» من قبل الحكومة لأسلوب تعاملها مع عجز الموازنة والدين العام.
ففى البيان المالى الذى ألقته الحكومة أمام البرلمان حول موازنة 2017 ــ 2018، أوضح وزير المالية أن حجم الدين العام قد بلغ نحو 3 تريليونات و60 مليار جنيه، أو ما يعادل تقريبا 90% من الناتج المحلى، وكان نصيب الدين الخارجى منها نحو 472 مليار جنيه. ولم يكن حجم الدين العام وحده هو ما استرعى انتباه المحللين؛ بل إن أعباء خدمة الدين العام هى أكثر ما لفت الانتباه وأثار المخاوف، حيث شكلت هذه الأعباء الرقم الأبرز والأكبر على الإطلاق بين بنود الإنفاق فى الموازنة بقيمة إجمالية بلغت نحو 381 مليار جنيه، وهو ما يمثل ثلث الإنفاق الحكومى. وبشكل عام، فإن هناك ملاحظتين يجب الوقوف عندهما بخصوص أزمة الدين العام الحالى: أولا، لجوء الحكومة المتكرر خلال الأعوام التى أعقبت ثورة 2011 إلى الاقتراض كآلية لتمويل عجز الموازنة، إلى جانب الوتيرة السريعة التى يتزايد بها الطلب الحكومى على القروض الداخلية والخارجية منذ 2014. فلقد ارتفع إجمالى الدين العام من نحو 970 مليار جنيه فى 2011، إلى نحو تريليون ونصف تريليون جنيه فى 2013، ثم قفز إلى قرابة التريليون و750 مليار جنيه فى 2014، وتجاوز حدود 2 تريليون جنيه فى 2015، ثم كسر حاجز 3 تريليونات خلال العامين الأخيرين. أما الملاحظة الثانية، فهى زيادة معدلات الاقتراض الخارجى بصورة غير مسبوقة، فخلال النصف الأول من العام المالى الماضى 2016 ــ 2017 وحده، ارتفع حجم الدين الخارجى بنسبة 41 % مقارنة بالعام المالى السابق. ولقد بدا واضحا من نهج الحكومة أنها صارت تفضل الاقتراض الخارجى على اعتبار أن نسبة الفائدة على النقد الأجنبى أقل كثيرا من نظيرتها المحلية، مغفلة بذلك تبعات الاقتراض الخارجى على السيادة الوطنية واستقلال القرار الوطنى. 
وأمام هذا النمو السرطانى للدين العام، فإن أخشى ما ينبغى أن نخشاه هو أن يكون هذا الورم السرطانى قد أصاب مخ الجسد الحكومى، وأقصد بذلك المنطق الذى ترى به الحكومة مبدأ الاقتراض ذاته وتقيم به تبعاته ومخاطره. فكما يشير المفكر الأمريكى رالف إيمرسون متهكما، فإن هناك دولا تحافظ على ملاءتها المالية عن طريق الدين بمبدأ أنه «إذا كنت لن تقدم لى المال، فكيف يمكن أن أدفع لك؟». المقصد أنه عندما يتحول الاقتراض إلى سلوك حكومى ووسيلة سهلة لتمويل العجز؛ فإن ذلك قد يفضى بنا إلى ما يطلق عليه «مصيدة الديون»، فنقترض لسداد ديون سابقة، فتزيد أعباء الديون (الأقساط والفوائد)، فيرتفع عجز الموازنة، وهنا نحتاج للاقتراض مرة أخرى، فتزيد قيمة القروض، وترتفع أعباء خدمة الدين من جديد، وهكذا دواليك. وفى الحقيقة، فإن البيان المالى للحكومة قد أشار بالفعل إلى وجود هذه الأعراض، فلقد اعترفت الحكومة أن العجز فى الموازنة العامة للدولة يعد من الأسباب الرئيسية لزيادة حجم الدين حيث نحتاج إلى الاقتراض المستمر من أجل تغطيته.
***
هناك بعد آخر لا يقل خطورة لأزمة عجز الموازنة وتزايد حجم وأعباء الدين العام، وهو يتعلق بطبيعة السياسات التى تعالج بها الحكومة لهذه الأزمة المستفحلة. فلقد وجدت الحكومة فى الطبقات الفقيرة والمتوسطة كبش فداءٍ لإخفاقاتها الاقتصادية، فحمّلت هذه الطبقات وحدها آثار عجز الموازنة وتداعيات ارتفاع الدين العام؛ على الرغم من أن الأزمة تتعلق فى المقام الأول بالأداء الحكومى، فكما قال الرئيس الأمريكى الراحل رونالد ريجان «أن تعانى من أزمة ديون، فهذا ليس لأنك لم تفرض ضرائب (وهذا ما تقوم به الحكومة المصرية ضمنا فى المرحلة الحالية)؛ وإنما لأنك أنفقت الكثير». فلقد أساءت الحكومات المتعاقبة منذ ثورة 2011 إدارة الموارد المتاحة، وتوسعت فى الإنفاق على مشروعات افتقرت للدراسات المتأنية فلم تعط العائد المرجو منها، واضطُرّت إلى زيادة المصروفات الجارية لمواجهة أزمة الدولار وغيرها من الأزمات وهى نفقاتٌ لا مردود منها، وبذلك استمر عجز الموازنة وتزايد معدل الاقتراض. ولم تلبث الحكومة من أجل إصلاح ما أفسدته بيديها أن اعتمدت سلسلة من القرارات والإجراءات الاقتصادية ــ أطلقت عليها إصلاحات اقتصادية ــ تحت إشراف صندوق النقد الدولى بهدف تخفيف عجز الموازنة، فشملت هذه الإصلاحات تحرير سعر الصرف، وتعديل منظومة الدعم، ورفع أسعار المحروقات والمواد البترولية، ورفع أسعار الكهرباء والمياه، إلى جانب إقرار ضريبة القيمة المضافة، وغيرها. وبشكلٍ عام، فلقد طالت آثار هذه الإجراءات قطاعات شعبية واسعة، وتجرعت قطاعات عريضة من محدودى ومتوسطى الدخول مرارتها علقما وصارت تئن وحدها تحت وطأة ارتفاع تكاليف المعيشة، وبذلك يكون المواطن المصرى، على الرغم من كونه المكون الأكثر ضعفا والأقل حيلة فى البنيان الاقتصادى المصرى، هو المتحمل الحقيقى لنتائج سوء الإدارة الحكومية وأعباء سداد ديونها. 
ومع استمرار عجز الموازنة وتخطى الدين العام للحدود الآمنة وارتفاع تكلفة أعبائه، فمن المتوقع أن تستمر إجراءات الحكومة التقشفية، والتى تمارسها للأسف بنهج غير منضبط لا يراعى احتياجات المجتمع الفعلية، وسترتفع فى ظلها الاستقطاعات من حصص بنود الموازنة كالتعليم والصحة والخدمات الاجتماعية الأخرى. وفى ظل هذا السيناريو، لا بد من أن تتدنى خصائص رأس المال البشرى، ومن ثم تتراجع الإنتاجية بسبب عدم ملاءمة قدرات الأفراد لمتطلبات أسواق العمل والإنتاج؛ فينخفض معدل النمو الاقتصادى؛ ومن ثم تنخفض الدخول الحقيقية للأفراد؛ فترتفع معدلات الفقر؛ وبالتالى تنخفض الإيرادات العامة للدولة؛ وبذلك ينتهى بنا المطاف إلى مصيدةٍ أخرى يطلق عليها باحثو العلوم الاجتماعية «مصيدة الفقر». وأمام وضع كهذا، ستبدأ دورة جديدة أشد وطأة وأكثر تعقيدا من عجز الموازنة فيصبح الاقتراض ضرورة حتمية، وبذلك ندور فى دوائر مفرغة بين مطرقة الديون وسندان الفقر، وهى دوائر يصعب كسر حلقاتها والإفلات منها. 
***
أتمنى ألا يكون حديث السيسى خلال مؤتمر الشباب مجرد تصريحٍ عابرٍ، وأرجو أن يكون إدراكا حقيقيا من النظام للوضع الاقتصادى المزرى الذى قد يودى بنا إليه استمرار وتيرة الاقتراض على هذا النحو، ونقطة تحولٍ فى سياسات الحكومة لتمويل عجز الموازنة. فدول العالم والمنظمات الدولية لن تكون مستعدة باستمرارٍ لإقراضنا، وأصدقاء اليوم ليسوا بالضرورة أصدقاء الغد لا سيما فى ظل الاضطرابات السياسية والأمنية والتحديات الاقتصادية المتزايدة التى تموج بها المنطقة؛ ولذلك فليس أمامنا كما أشار السيسى سوى «الكفاح والصبر»، وهو ما يستلزم منا أن نعمل أولا على إحداث استقرار أمنى واصلاح سياسى وديمقراطى حقيقى بالبلاد، ثم نسعى بجدية إلى إعادة تنشيط موارد النقد الأجنبى، كالسياحة والصادرات والاستثمارات الأجنبية المباشرة وتحويلات العاملين بالخارج، إلى جانب ترميم وتحديث القاعدة الإنتاجية للاقتصاد المصرى، وإحياء شركات القطاع العام وقطاع الأعمال العام، والإصلاح المؤسسى والتنظيمى لإعادة هيكلة الجهاز الإدارى المترهل للدولة، وإصلاح النظام الضريبى ليصبح أكثر كفاءة وأشد عدالة، على أن تسير برامج الحماية والضمان الاجتماعى جنبا إلى جنب مع هذه الإصلاحات، وخلال ذلك كله لا بد من التعامل مع الدين العام بميزان حساس يراعى قدرتنا على السداد، ويضمن توجيه حصيلة القروض إلى مشروعات تحقق نموا اقتصاديا يدعم قدرتنا على الوفاء بالتزامات القروض، حتى لا نقع فريسة لمصيدتى الدين والفقر.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved