ع هدير البوسطة

داليا شمس
داليا شمس

آخر تحديث: السبت 3 أغسطس 2019 - 7:45 م بتوقيت القاهرة

كلما استقليت حافلة لتنقلني من مدينة لأخرى تذكرت على الفور أغنية فيروز الشهيرة "ع هدير البوسطة" التي تصور ببراعة وصف رحلة أتوبيس من ضيعة حملايا لضيعة تنورين بلبنان، فيهرب الراوي إلى عيون عليا، كما تقول الأغنية " تذكرتك يا عليا.. وتذكرت عيونك، يخرب بيت عيونك يا عليا شو حلوين"، فالمقصود "بالبوسطة" هنا هو الباص القديم الذي يحمل الناس ذهابا وإيابا من قرية إلى أخرى.
يستدعي زياد الرحباني، الذي كتب ولحن الأغنية، كل الحواس ليصف مشهد الرحلة بشكل درامي، فنسمع في البداية هدير محرك السيارة القديمة التي تسير في طريق متعرج، تصل قمة جبل لتنزل إلى قعر وادٍ، ثم نتعرف على الركاب "الفطسانين" بسبب حرارة الجو، فنجد "واحد عم ياكل خس... واحد عم ياكل تين، وفي واحد هو ومرته.. ولو شو بشعة مرته (...) عبا وداخت مرته"، إلى آخره. يجسد الرحباني الأجواء التي سادت داخل الحافلة التي ركبها الناس دون دفع أجرة، فلا يملكون حق التذمر، وكل ما يمكنهم فعله هو التسلية بالطعام ومساعدة السائق، فتارة يعدوا الركاب معه، وتارة يمسكون بالباب ويتشبثون به كي لا يفتح أو يطلبون غلق النافذة "لو بتسكر هالشباك لأن الهوا يا معلم". مع الاختلاف في كل مرة بالطبع نظرا لتغير الركاب والبلاد وتنوع أنماط الشخصيات التي يجمعك بها الأتوبيس في مكان ضيق ومغلق على من فيه خلال عدد من الساعات، إلا أن انحسار المسافة بينكم يفرض غالبا هذا النوع من المشاهد الدرامية التي تنبه وتستنفر كل الحواس.
***
غالبا ما يأكل الناس خلال الرحلة لتمضية الوقت لو لم يكن لإشباع جوع، وفي هذه الحالة ستأتيك مجموعة من الروائح المفاجئة التي تفصح عن نفسها تدريجيا: بيتزا، خيار، سندوتش فول أعد مسبقا فصار له نكهة غريبة... رائحة تذهب وتظهر أخرى، أو أحيانا يختلطوا جميعا. ولابد قطعا من الطفل إياه الذي يلتهم كيس الشيبس الكبير التهاما، فتسمع الخرفشة عن بعد أو قرب، بحسب المسافة، وتسمع أيضا صوت قضم البطاطس المقلية وهي تتكسر تحت أسنان الصغير الذي سيمسح غالبا يديه في الكرسي أو في شعر من أمامه حين يحاول التشبث بالمقعد كي لا يسقط بسبب المطبات.
أحاول أن أسرح في عيون عليا، على طريقة زياد الرحباني، أو في أي شيء آخر، حين يبدأ عرض أحد الأفلام على الشاشة المثبتة في أماكن محددة، ولكي يتسنى للجميع متابعة الفيلم يكون الصوت عاليا جدا، فتتأكد أنه لن يغالبك النوم، خاصة أنه ما أن ينتهي فيلم حتى يبدأ الآخر، وكلها من نوعية الأفلام الكوميدية الهابطة التي يصرخ كل من فيها وتقرقع الضحكات، قبل وصلة الرقص الشرقي والأغنية الشعبية التي صارت ماركة مسجلة لبعض شركات الإنتاج. عليا زياد الرحباني تصبح في خبر كان! لا مجال لها وسط فن النهود والأفخاذ! وكلما ارتفع صوت الموسيقى ازداد صياح أطفال الباص وبكاؤهم، خاصة إذا غلب الأم النعاس والتعب، وقررت أن تترك الصغير يأكل الشيبس ويكلم الملائكة والشياطين.
***
تتفهم لعبة الكراسي التي حدثت في بداية ركوبك للأتوبيس ولماذا لم يجلس الركاب في أماكنهم المحددة فور الصعود، لأن العدد لم يكن قد اكتمل وبالتالي حاول كل مسافر أن يكون وحيدا، منفردا بمقعده وما جاوره. وهنا تتجلى استراتيجيات الركاب المعروفة في المواصلات العامة، فغالبا تتشابه ردود الأفعال. نادرا ما يجلس الراكب إلى جوار آخر، إذا كانت هناك أماكن خاوية. تلقائيا يحاول الحفاظ على مساحته الخاصة. لا يرغب في التواصل، فيرسل للراكب الذي يبحث عن مقعده وينظر في التذكرة برسالة صدود مفادها "اختر مكانا آخر". لغة العيون تكفي في هذه المواقف. وأحيانا يضع حقيبته ويركز بصره باتجاه النافذة فيتجاهل تماما وصول راكب جديد، أي "لا أراك، ولا تقترب" أو يتظاهر بالنوم، ثم يفرد جسمه عفويا ويتمطى فيأخذ مساحة غيره. هذا جزء أصيل من خبرات ركاب الحافلات، ونحن هنا نتحدث عن حافلات حجزت أماكنها مسبقا للتنقل من مدينة إلى أخرى، أما إذا كان الأمر يتعلق بأتوبيسات النقل العام والميكروباصات فتلك تجربة حسية أخرى، تلتحم فيها الأجساد بشكل يجعل ردود الأفعال فيها أشد وأقصى، لأن المسافات الطبيعية بين الأشخاص تزول وتكاد تنعدم.
أجراس الهواتف المحمولة تعلن عن أذواق متباينة. وأجزاء المكالمات التي تصل إلى أذنك تجعلك تتعرف على بعض المعلومات التي تخص هذا الراكب أو ذاك. تدخل أحيانا إلى حياتهم الحميمة دون أن تدري أو تختار. هذا يحاول استرضاء حبيبته، وتلك غاضبة من زوجها أو متزاعلة مع أختها. في الحافلة ينتفي وصف البيوت الأسرار، ما ينطبق أيضا على القطار أو الرحلات التي تطول لساعات. ورغم طول الساعات فهناك تفاصيل تحدث في كل لحظة.. تجربة اجتماعية وحسية لها إيقاعها الخاص الذي جعل الرحباني الأب يسرع من إيقاع أغنية " ع هدير البوسطة" التي أخذها من ابنه زياد مقابل 500 ليرة، فالأغنية بالأساس كانت جزء من مسرحية "بالنسبة لبكرة شو" وغناها خلال الأحداث المطرب جوزيف صقر عام 1979. وعندما أعجبت عاصي الرحباني اقترح على زياد أن تغنيها والدته فيروز، وبالفعل كانت من أنجح وأشهر أغانيها. تم تسريع الإيقاع لكنه صار رائقا جدا إذا ما قارناه بإيقاع حافلة مصرية ترقص على أغاني المهرجانات ورنات المحمول.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved