رحلة المليون فدان

مدحت نافع
مدحت نافع

آخر تحديث: الإثنين 3 أغسطس 2020 - 7:30 م بتوقيت القاهرة

كان مسلسلا ممتعا ذلك الذى حمل عنوان «رحلة المليون» قدّم من خلاله الفنان الرائع محمد صبحى نموذجا لرجل قروى بسيط اسمه «سنبل» استطاع رغم فقره وقلة حيلته أن يجمع مليون جنيه من عدد من المشروعات البدائية، والكد والإخلاص فى خدمة الأسرة الثرية التى نشأ فيها وأقام معها. ثم انتقل فى الجزء الثانى من المسلسل ليحقق حلما أكبر ــ عاما هذه المرة ــ وهو حلم تعمير الصحراء بمشروع زراعى كبير، وبسواعد مصرية خالصة. وعلى عكس رحلة المليون جنيه التى اقتضت أن يضع «سنبل» قرشا على قرش لكى تتراكم المدخرات ويتحقق له حلم الثراء، فإن رحلة زراعة مليون فدان لن تكون موفقة أبدا بصورة تراكمية، بل يجب أن تنطلق وفق خطط طموح لغزو مساحات كبيرة من الأراضى، تسمح باستغلال أدوات الرى الحديثة والميكنة الزراعية المتطورة لتحقيق أكبر قدر من وفورات النطاق، تلك التى تتحقق مع الحجم الكبير للمشروع، ولا يمكن أن تعمل أبدا فى أرض مفتتة الملكية أو حيازات زراعية محدودة، إلا بتكلفة أعلى وكفاءة أقل، نتيجة ارتفاع نصيب الفدان الواحد من تكاليف التشغيل والتكاليف الرأسمالية، وصعوبة التخطيط المركزى لتنويع المحاصيل مع غياب أى دور للإرشاد الزراعى وما شابهه.
***
حق لرئيس الجمهورية أن يحلم برقعة زراعية متسعة تعوّض ما تفقده مصر جرّاء التجريف والتبوير والزحف الأسمنتى البغيض، أن يحلم بريف مصرى غير طارد لأهله، ونشاط زراعى يليق بمصر الدولة التى كانت سلة الغذاء للإمبراطورية الرومانية... وواجب على الشعب أن يتمسك بهذا الحلم ويطوّره ويتفانى فى تحقيقه، وأن يشعر بملكيته ويجاهد فى سبيل تحقيقه، أن يكون هذا الحلم هدفا من أهداف التنمية الشاملة المستدامة التى نصبو إليها، والتى تحرّكت الدكتورة هالة السعيد وزيرة التخطيط النشطة الواعية لترجمتها فى شكل رؤية متكاملة واستراتيجيات وأهداف قابلة للتحقيق والقياس، لا نغفل فى ذلك دور الوزير السابق الدكتور أشرف العربى وكل من عمل على بلورة رؤية مصر 2030 من العاملين بالحكومة ومؤسسات الدولة والقطاع الخاص. وقد قام مشروع المليون ونصف المليون فدان على أهداف أساسية هى:
• إنشاء ريف مصرى جديد وعصرى، تكون نواته سلسلة من القرى النموذجية تعالج مشكلات الماضى وتستثمر مقومات الحاضر.
• زيادة الرقعة الزراعية من 8 ملايين فدان إلى 9,5 مليون فدان بنسبة زيادة 20٪.
• توسيع الحيز العمرانى واستيعاب النمو الطبيعى للسكان بإنشاء مجتمعات عمرانية عصرية متكاملة مما يساهم فى زيادة المساحة المأهولة بالسكان فى مصر من 6% إلى 10 % .
• تعظيم الاستفادة من موارد مصر من المياه الجوفية.
• زراعة المحاصيل الاقتصادية التى تدر عائدا ماليا كبيرا، وتساهم فى سد الفجوة الغذائية التى تعانى منها البلاد.
• إقامة العديد من الصناعات المرتبطة بالنشاط الزراعى والثروة الحيوانية، والصناعات الغذائية بهدف التصدير.
• زيادة صادرات مصر من المحاصيل الزراعية إلى 10 ملايين طن سنويا.
• خلق ما يزيد عن 25 ألف فرصة عمل.
ويغطى المشروع مساحات واسعة من الجمهورية، خاصة تلك المحرومة من الخدمات وفرص العمل فى عدد من محافظات الصعيد وجنوب الوادى وسيناء والدلتا، حيث وقع الاختيار على مناطق فى ثمانى محافظات هى: قنا، أسوان، المنيا، الوادى الجديد، مطروح، جنوب سيناء، الاسماعيلية، الجيزة.
وتشير بيانات الهيئة العامة للاستعلامات إلى أن تلك المناطق قد تم اختيارها بعد دراسات متعمقة، بحيث تكون قريبة من المناطق الحضرية وخطوط الاتصال بين المحافظات وشبكة الطرق القومية والكهربائية، حتى يتسنى لوزارة الإسكان سرعة إقامة المناطق العمرانية، وتوفير الخدمات والبنية الأساسية لهذه المناطق، فضلا عن توافر مصادر المياه بها سواء الجوفية أو النيلية.
***
أدركت الدولة إذن حدود دورها فى هذا المشروع، إذ لم توفّق أبدا فى منافسة القطاع الخاص واستبداله لا فى مصر ولا فى أى مكان على وجه الأرض، لكنها تنجح إذا وفّرت للقطاع العائلى البيئة المناسبة للاستثمار، ومشروعات البنية الأساسية من طرق ووسائل نقل ومصادر آمنة مستقرة للمياه والطاقة... الدولة يمكن أن تشارك القطاع الخاص وتتكامل معه فى مشروعاته لكنها أبدا لم تخلق لمنافسته.
يقول عبدالرحمن الرافعى فى كتابه «عصر إسماعيل» الجزء الثانى: «كان لأعمال العمران التى قام بها اسماعيل فى ميادين الزراعة فضل كبير على ازدياد مساحة الأطيان الزراعية وزيادة محصولها، فقد كانت مساحة الأراضى المزروعة فى أواخر عهد محمد على 3,856,000 فدان، فبلغت فى أواخر عهد اسماعيل 4,810,000 فدان أى أنها زادت بمقدار مليون فدان تقريبا، ويدخل فى هذا الإحصاء ما زاد من الأطيان فى عهد سعيد، لما اشتمل عليه ذلك العهد من الإصلاحات الزراعية..». هنا تبدو مصر الحديثة بجيلها الحاضر أكثر طموحا وإصرارا على تحقيق طفرة فى مساحة الأرض الزراعية (التوسّع الأفقى) وتحسين إنتاجية الفدان (التوسّع الرأسى) بين قيود لم تعرفها مصر الخديوية وفى مقدمتها ندرة المياه (أو قل إن شئت الفقر المائى) وعدم تجدد التربة بشكل طبيعى نتيجة احتجاز السد العالى للطمى الذى كان يغنينا عن استخدام الأسمدة على اختلاف أنواعها، وما تسببه من تبعات اقتصادية وصحية.
***
لمثل تلك التحديات فقد حصر مشروع المليون ونصف مليون فدان الموارد المائية اللازمة، حيث من المخطط حفر أكثر نحو خمسة آلاف بئرا جوفية، تزيد إلى أكثر من 13 ألف بئر لاستصلاح 4 ملايين فدان فى المستقبل. كذلك استهدف المشروع الاعتماد على الطاقة الشمسية كأحد موارد الطاقة المتجددة النظيفة فى تشغيل المشروع حيث تم بناء محطة لتوليد الكهرباء من الطاقة الشمسية (الأمر الذى يحتاج إلى دعم أكبر من وزارة الكهرباء واستقلالية لهيئة الطاقة المتجددة كما سبق أن تناولنا فى مقالات سابقة وفى سياق مختلف). كذلك قامت الدولة بعمل دراسات متطورة على خصائص التربة والأرض التى سيتم زراعتها وتحديد التركيب المحصولى الأنسب لها، حيث إنه من المقرر زراعة محاصيل استراتيجية كالقمح والذرة الصفراء، وأخرى تصديرية مثل البصل والفول السودانى والنخيل والنباتات الطبية. بالإضافة إلى زراعة محاصيل تصنيعية مثل بنجر السكر ودوار الشمس وفول الصويا والتين والجوافة، كما يتم زراعة محاصيل العنب والبطاطس والطماطم والشمام والفاصوليا.
وقد أعلنت الحكومة إنشاء شركة قابضة لإدارة هذا المشروع الضخم هى شركة «الريف المصرى الجديد» بعيدا عن النمط التقليدى لإدارة المرافق من خلال دواوين الوزارات. وإن كانت تلك الشركة تحتاج دائما إلى دعم مؤسسيها والمساهمين فيها وهم هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة، الهيئة العامة لمشروعات التعمير والتنمية الزراعية، ووزارة المالية من أجل التغلّب على العقبات الموروثة فى التعامل مع ملف الأراضى المملوكة للدولة. وأظن أن خطة الدولة قد التفتت إلى سوءات تفتيت الحيازات فى عمليات طرح مساحات الأراضى للمواطنين، لكنها تحتاج إلى ضوابط أكثر حزما وشفافية فى إدارة المنظومة لضمان تنوّع وجودة المحاصيل وعدم تفتيت الملكيات عبر البيع أو التوريث.
وإذا كانت المساحة المنزرعة فى مصر الآن قد بلغت نحو 9,4 مليون فدان (وفقا لتصريح حديث للسيد وزير الزراعة وحوالى 8 ملايين وفقا لأحدث بيان رسمى وربما ضمّن السيد الوزير 1.5 مليون فدان بالفعل) فإن نصيب الفرد من تلك المساحة قد تراجع بشكل كبير إذ لم يزد تعداد السكان عن 6 ملايين نسمة فى عهد الخديوى اسماعيل ونحو 6,8 مليون فى إحصاء 1882، ففى حين تضاعفت مساحة الرقعة الزراعية مرة واحدة منذ ذلك العهد، تضاعف عدد السكان بنحو 16,6 ضعفا! مما يضغط بشدة على حصيلة الإنتاج الزراعى للاستهلاك المحلى ناهيك عن الحاجة إلى التصدير.
ولنا مع وزارة الزراعة تحت قيادتها الجديدة مقالات أخرى، لتوضيح العديد من الجوانب الإيجابية لتولى خبير بشئون التمويل والإدارة المحاسبية وزارة تفتقر إلى هذا النوع من الخبرات، وكذلك للوقوف على أهم التحديات التى يتوقع أن تواجهها.
كل عام ومصر بخير بمناسبة عيد الأضحى المبارك أعاده الله علينا بالخير واليمن والبركات...

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved