يسألونك عن السعادة

بشير عبد الفتاح
بشير عبد الفتاح

آخر تحديث: الإثنين 3 أغسطس 2020 - 7:35 م بتوقيت القاهرة

دأبت العرب عند نعتها المرء بصفة ما على استخدام لفظ «صاحب» أو «أخو». فيقال فلان صاحب مروءة، أو أخو مروءة، ما يعنى أنه يتحلى بصفة المروءة حتى باتت سمتا أصيلا لشخصه. من هنا، جاء مصطلح «صاحب السعادة»، ليفيد بأن الشخص ينعم بالسعادة، ومن ثم ينطبق عليه وصف سعيد. وعلى الدرب ذاته، سارت الرتب والألقاب الاجتماعية الوضعية، التى اعتمدت مصر النهج العثمانى فيها حتى عام 1915، حينما تم فرض الحماية البريطانية عليها وفصلها فعليًا عن السيادة العثمانية الاسمية، فحينئذ أصدر السلطان حسين كامل أمرا سلطانيا بضرب أوسمة وتعيين رتب جديدة تحل محل القديمة، تضمنت استحداث عدة ألقاب كان من بينها «حضرة صاحب السعادة»، الذى كان يمنح لحامل رتبة الفريق العسكرى والحائزين للباشاوية، و«صاحب السعادة» للحائزين لرتبة اللواء العسكرية، كما يشير إلى أصحاب المراكز الدبلوماسية الرفيعة.
ولقد اقترن السعى البشرى الحثيث والمزمن لبلوغ السعادة بجدل متواصل بشأن معناها وكيفية تحصيلها. فباعتبارها غاية إنسانية ملحة، استحوذت على نصيب الأسد من اهتمام الفلسفة على مر العصور، إذ تباينت آراء الفلاسفة بشأن معناها وكيفية نيلها. فثمة من أدركها فى المتع الحسية من سلطة وثراء وخلافه، كالفيلسوف الألمانى نيتشه، الذى ذهب إلى أن امتلاك القوة والسلطة هو الذى يزيد الإحساس بالذات ومن ثم يولد الشعور بالسعادة. ومنهم من وجدها فى الفضائل والقيم النبيلة والأخلاق القويمة، كأفلاطون، الذى أكد فى مؤلفه الأشهر «الجمهورية»، أن المتمسكين بفضيلة العدالة، هم وحدهم من يعرفون طريق السعادة الحقيقية، التى تنبع من تحقيق العدالة الاجتماعية الناتجة عن قيام المرء بواجباته ووظيفته الاجتماعية على الوجه الأكمل. أما تلميذه النجيب أرسطو، فقد اعتبر تمسك المرء بالفضيلة شرطا ضروريا لشعوره بالسعادة، فيما يمكن أن يفضى اجتهاده لتحصيلها بغير التماس الفضيلة، إلى بلوغه القناعة، التى تعد أول طريق السعادة.
من جانبه، اعتبر العالم والفيلسوف برتراند راسيل، الذى سعى لنشر الفلسفة العقلانية العلمية الهادفة إلى تحقيق السلام والمحبة فى شتى أرجاء المعمورة، ونبذ النزعة القوموية الشوفينية المتعصبة وتبديد الأنانية الضيقة التى أدت إلى انفجار حربين عالميتين داميتين فى غضون عشرين عاما، ليستحق بذلك لقب «فولتير الإنجليزى» بوصفه مثقفا عضويا منخرطا فى قضايا وتفاعلات مجتمعه وليس منعزلا عن الواقع، فقد صادف السعادة فى الاستسلام المطلق للشعور الحقيقى والعميق بالحب دونما قمع أو مقاومة له وبغير تهرب أو خوف منه.
ومنذ سنينها الأولى، أبت الدراما المصرية، بمختلف صنوفها، إلا أن تدلى بدلوها فى ذلك المعترك الفكرى. ففى عام 1931، قدم المبدع نجيب الريحانى وفرقته فيلم «صاحب السعادة كشكش بيه» الذى ألفه بديع خيرى، وأخرجه توليو كاريتى، وحاول صناعه توصيل رسالة مفادها أن السعادة الحقيقية ليست فى احتكار المال والسلطة والصيت، بقدر ما تكمن فى التخلى عن المكايدة والترفع عن المناكفة والمؤامرات، وإيثار المودة وحسن الجوار ومشاركة الآخرين جميع متع الحياة. وفى فيلم «يوم سعيد» عام 1939، صدحت الفنانة الراحلة أسمهان، بصوتها العذب فقط دونما تمثيل، بأغنية «ما أحلاها عيشة الفلاح»، التى لحنها بطل الفيلم موسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب. وكانت كلمات الأغنية، التى كتبها بيرم التونسى، تغبط الفلاح المصرى، وتمتدح معيشته التى ينعم فيها بالهدوء والسكينة والاطمئنان وراحة البال المنبعثة جميعها من بساطة الحياة وسلامة الطوية. وهى الرائعة الغنائية، التى غردها عبدالوهاب لاحقا خارج الفيلم، ومن بعده نجاة الصغيرة عام 1981.
وفى مسعى منه لسبر أغوار العلاقة المثيرة بين الثراء والسعادة، حاول فيلم «الدنيا لما تضحك»، الذى كتبه بديع خيرى وأخرجه محمد عبدالجواد عام 1953 وقام ببطولته اسماعيل يس وشكرى سرحان ونجاح سلام وآخرون، أن يقنع الجماهير بأن المال وحده لا يكفى لتحقيق السعادة الكاملة للإنسان. وفى ثنايا الفيلم، أطلق الثنائى المتألق المتمثل فى الشاعر الغنائى أبوالسعود الإبيارى وتوءمه الفنى نجم الكوميديا الأسطورى اسماعيل يس مونولوجا غنائيا فكاهيا بعنوان «صاحب السعادة»، الذى كتبه الإبيارى ولحنه وغناه اسماعيل يس، تساءلا من خلاله عن معنى السعادة وسبل إدراكها بعد الإقرار برغبة جميع البشر فى التفانى والتسابق من أجل تحصيلها.
أما فى عام 1954، فقد أبدع المخرج عزالدين ذوالفقار رائعته السينمائية الخالدة «موعد مع السعادة»، التى قام بتأليفها وإخراجها، بينما جسدها على الشاشة الفضية باقة من أبرز نجوم الزمن الجميل كفاتن حمامة وعماد حمدى وحسين رياض وعبدالوارث عسر وغيرهم من نجوم ونجمات الظل. ففى ذلك الفيلم العبقرى، ارتأى مبدعوه السعادة فى انتصار قيم الحب والتسامح على نزعة الكراهية ورغبة الانتقام، من خلال التسلح بالصبر والنضال مع التحصن بالثقة فى العدالة الإلهية التى تكفل إنصاف المظلوم وتتيح استعادة الحق المسلوب.
غير بعيد عن الإبداعات الفنية والطروحات الفلسفية، أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارا فى يوليو 2011، يدعو الدول الأعضاء إلى قياس مقدار السعادة لدى شعوبها بغية المساعدة فى إعادة توجيه السياسات العامة، وفى أبريل 2012، عقدت المنظمة الدولية اجتماعها الأول رفيع المستوى حول السعادة والرفاه، كما نشرت شبكة حلول التنمية المستدامة التابعة لها التقرير السنوى العالمى الأول عن السعادة، والذى رصد أوضاع السعادة والبؤس فى أكثر من 150 دولة، مستندا إلى معايير شتى، منها: نصيب الفرد من الناتج المحلى الإجمالى، ومتوسط العمر، والحرية، وسخاء الدولة على مواطنيها، والدعم الاجتماعى، وتراجع الفساد. بموازاة ذلك، يقدم معهد «ليجاتوم» البريطانى مقياسا لمدى سعادة وازدهار دول العالم بثمانية مؤشرات هى: الاقتصاد، مساعى الأعمال، أسلوب الحكم، التعليم، الصحة، السلامة والأمن، الحريات الشخصية، ورأس المال الاجتماعى. وفى يونيو 2012، اعتمدت الأمم المتحدة يوم العشرين من مارس من كل عام يوما عالميا لسعادة المجتمع الدولى، اعترافا بأهمية السعى لبلوغ السعادة وتحقيق الرفاهية، ومحاصرة الفقر والحروب والأمراض، وتحقيق التنمية فى شتى المجالات.
فى سياق ذى صلة، عمدت بعض دول العالم إلى مأسسة جهود إدراك السعادة، فبعدما أعلن الرئيس الفنزويلى نيكولاس مادورو فى أكتوبر من عام 2013 عزمه تشكيل وزارة «السعادة الاجتماعية» بقصد العمل على تقليص حدة الفقر وتوفير الرعاية الشاملة لبنى وطنه، وتلبية احتياجاتهم، مع الاهتمام بكبار السن وتنفيذ البرامج الاجتماعية، انتزعت دولة الإمارات العربية المتحدة فى 2016 قصب السبق على مستوى الشرق الأوسط بتخصيص وزارة للسعادة، عرفت باسم وزارة الدولة للسعادة، بغية مواءمة جميع خطط الدولة وبرامجها وسياساتها لتحقيق السعادة للشعب الإماراتى وضيوفه من المقيمين والزائرين.
من جهته، حسم الفكر الدينى الجدل حول السعادة داعيا لالتماسها فى القرب من الله لنيل رضاه والفوز بجنته. ففى القرآن الكريم، تتجلى السعادة فى ولوج المسلم جنة ربه والهناء بنعيمها المقيم وخلودها المتسامى عن أى معاناة كانت تنغص حياة البشر فى حياتهم الدنيا. ففى الآية 108 من سورة «هود» يقول تبارك وتعالى:« وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِى الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذ». وفى موضع قرآنى آخر، يقرن تقدست أسماؤه السعادة بطمأنينة النفس والقلب، بحيث يجمل المولى عز وجل موجبات السعادة فى عروج الإنسان إلى جنة ربه ليدرك النفس المطمئنة، التى تعد إحدى أعلى مراتب النفس الإنسانية، بعدما تودع حال النفس الدنيئة الأمارة بالسوء، لترتقى من خلال التقوى والإيمان الصادق وحسن العبادة إلى درجة الاطمئنان ودخول الجنة. فيقول جل شأنه فى ختام سورة الفجر «يا أيتها النفس المطمئنة ارجعى إلى ربك راضية مرضية فادخلى فى عبادى وادخلى جنتى»، ثم فى الآية 28 من سورة «الرعد»: «الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب»، فبذكر الله تنعم النفس المؤمنة بالاستقرار مع زوال القلق والاضطرابات والضغوط النفسية، حسبما اهتدى علم النفس المعاصر مؤخرا. وفى هذا المضمار، يحذر الخالق العظيم فى الآية 123 من سورة طه: «فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى، وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا»، وقد اختلفت التفاسير فى شرح معنى المعيشة الضنك، فمن المفسرين من أرجعها إلى دوام الفقر وملازمة المرض والخوف وغياب الطمأنينة، ومنهم من نسبها للعذاب الذى يتلقاه غير المؤمنين فى قبورهم قبل البعث والحساب.
ولدى الصوفية، يرتكن مفهوم السعادة على استقراء أحوال القلب وتوخى اللذة الروحانية وتفجير المعرفة اللدنية الوجدانية التى تتجاوز الظاهر إلى الباطن، وتتعدى النص والعقل معا إلى العرفان والحدس الجوانى، حيث يرى ابن سينا أن السعادة الحقيقية لا تكون لا بالحس ولا بالبرهان، وإنما بالتحلل من إسار الجسد والاتصال بالعالم القدسى النورانى، من خلال تطهير القلب والروح والنفس الناطقة. أما ابن عربى، فذهب إلى أن السعادة لا تدرك بالحس والعقل، بل بالقلب ووجدان العارف ورؤيا الولى الصالح، أى إن السعادة تكون بالتجربة الصوفية وقلب العارف واستحضار الباطن والتغزل بالذات المعشوقة عبر العرفان والتجلى والكشف الربانى. ولعل هذا ما يفسر امتلاء أشعار الصوفية بتجليات تتخذ من «الحب الإلهى» سبيلا للسعادة الأبدية فى الدنيا والآخرة. وتأسيسا لذلك التوجه، ارتأى الحطيئة، وهو شاعر مخضرم ولد بديار بنى عبس وأدرك الجاهلية وأسلم فى زمن خلافة أبى بكر الصديق، السعادة فى تقوى الله، حيث نظم بيتا من الشعر قال فيه: «ولستُ أرى السَّعادةَ جَمْعَ مالٍ ولكنَّ التَّقِيَّ هو السَّعيدُ». وبدوره، لم ينأى الفكر المسيحى كثيرا عن نظيره الإسلامى فى التعاطى مع مفهوم السعادة، إذ ارتأى القديس أغسطينوس السعادة الحقيقة والكاملة والدائمة فى سبيل الله، الذى يعد المصدر الوحيد لها، معتبرا أن السعيد هو من يقترب منه ويسلم كل لحظة من حياته تسليما كليا له، حتى يأنس به ويسعد بعشرته.
ولعلى لا أغرد بمنأى عن سجال الطروحات المذكورة آنفا، حينما أزعم أن السعادة إنما تنبلج من اتساق الإنسان مع ذاته وطيب معايشته لمحيطه، وصدقه مع نفسه وربه وكل من حوله، مع حسن الظن بالله وخشيته والاعتصام بحبله، على النحو الذى يعرج بالمرء إلى حالة من تمام الرضا، بحيث يرضى عن نفسه وبارئه وجميع مخلوقاته فى محياه ومماته، وذلك مصداقا لقوله تعالى نهاية سورة «البينة»، مثنيا على عباده الذين سعدوا ببلوغ كمال الرضا واغتنام الجنة، «رضى الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشى ربه». فسبحان من هذا كلامه.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved