السير الذاتية والتراجم الشخصية في «اقرأ»
إيهاب الملاح
آخر تحديث:
السبت 3 أغسطس 2024 - 7:55 م
بتوقيت القاهرة
(1)
لأسبابٍ تتعلق بمشروعٍ طموح أعمل عليه، لإعادة نشر روائع الإصدارات المصرية والعربية، أعكف منذ فترة على قراءة نصوص السيرة الذاتية والترجمة الشخصية التي صدرت في سلسلة (اقرأ) التاريخية العريقة لاختيار بعضها والدفع به لإعادة نشره ضمن ما أسميناه "روائع اقرأ".
والحقيقة أن السلسلة التي صدرت في 1943 وظهر منها ما يزيد على 800 عنوان، غطت كل مجالات المعرفة الإنسانية (أدب، تاريخ، فلسفة، علوم طبيعية، علم نفس، فنون، اقتصاد، ثقافة دينية.. إلخ) قد اشتملت على طائفة ممتازة من الكتب الرائعة تندرج في إطار ما يعرف بـ "السيرة الذاتية" و"الترجمة الشخصية" بصورة لا أظن أنها اجتمعت في سلسلةٍ ثقافية واحدة من قبل!
وباختصار، ودون تفصيل، فإن ما أقصده هنا بمفهوم السيرة الذاتية هو ما قام الشخص نفسه بتدوينه وتسجيله باعتباره سيرة حياته الذاتية أو العلمية أو الأدبية.. إلخ، أو مقاطع منها أو أجزاء محددة يسلط عليها الضوء، يرويها بنفسه في قالبها التقليدي المعروف.
أما "الترجمة الشخصية" فأعني بها ما قام بكتابته شخص آخر غير صاحب السيرة أو الترجمة المقدمة (مثل ما كتبه سامي الكيالي على سبيل المثال عن طه حسين).. ويتسع هذا المفهوم ليضم كل كتابة أنجزها باحث أو دارس عن شخصية أدبية أو تاريخية أو ذات إنجاز ملموس في تخصصها المعرفي..
(2)
سريعًا ودون أي إعداد مسبق أو حصر أو استقصاء أشير فقط إلى هذه العناوين التي كتبها أصحابها عن حياتهم (سيرة ذاتية خالصة) أو العناوين التي ترجم فيها شخص آخر لهذا العلم أو ذاك! في الدائرة الأولى سنجد على سبيل المثال: «هؤلاء علموني» و«حياتنا بعد الخمسين» لـ سلامة موسى، و«في بيتي» للعقاد، و«دمشق مدينة السحر والشعر» لمحمد كرد علي، و«من ذكريات الفن والقضاء» لتوفيق الحكيم، ومن أضواء الماضي لسامي الكيالي.. إلخ.
وفي الدائرة الثانية؛ سنجد جمال الدين الأفغاني لعبد القادر المغربي، «مع طه حسين» لسامي الكيالي، و«مع العقاد» لشوقي ضيف، و«ذكرى طه حسين» لسهير القلماوي، و«الحرية والجمال في أدب العقاد» لنعمات أحمد فؤاد، و«مع الدكتور محمد حسين هيكل»، وعملاق الأدب توفيق الحكيم لمحمد حسين الدالي.. وعظماء في طفولتهم لمحمد المنسي قنديل.. إلخ، هذه مجرد أمثلة!
إن «السيرة الذاتية» في واحدة من تعاريفها المشهورة من حيث هي تاريخٌ مستعاد لإنسانٍ يشعر بأن سيرته في الحياة قاربت على الانتهاء، وأنه يريد استعادة تاريخه الشخصي، متأملاً فيه، مستنبطاً لمعانيه، دالاً على نقاط قوته وضعفه، صغائره ومفاخره، انتصاراته وانكساراته، كي يبقى هذا التاريخ بعد وفاته، كأنه جدارية مسجل عليها تاريخ صاحبها، كي تقاوم الفناء من ناحية، أو تكون مصدر عبرة وعظة للآخرين من ناحية أخرى. باختصار، وكما يقول ناقدنا الراحل الدكتور جابر عصفور، تبدو كتابة السيرة الذاتية هنا كأنها تعبير رمزي عن مقاومة الموت، والتأبي عليه، وتحديه بالكتابة.
(3)
ومثلي مثل الآلاف من عشاق السيرة الذاتية في كل الأمم والثقافات. لا أحب فقط قراءة السيرة الذاتية لإشباع الفضول الفطري في التعرف على خبايا وأسرار صاحب السيرة (مهمة كانت أو غير ذلك)، بل ربما لأنني أعتقد أن المعرفة الحقة بالإنسان عبر العصور والأزمان والثقافات نجدها في هذه "السير الذاتية" المخلصة العميقة؛ طبعا لا أقصد التعميم -لا كمًّا ولا نوعًا- إنما في تلك السير الذاتية "النوعية" التي تتسم بقدرٍ من الشفافية والصراحة و"الجرأة" والتحليل وإبداء الرأي الحر، اتفقنا مع صاحبها أو اختلفنا، أحببناه أم شاب حبنا له بعض الكدر، اضطربت مشاعرنا إزاءه أو ارتبكت تقديراتنا له لأي اعتبارٍ سياسي أو اجتماعي أو أخلاقي أو أيا ما كان..
في النهاية تظل "السيرة الذاتية" هي المعرض الإنساني الخالد عبر العصور، الأكثر صدقًا ودلالة وتعبيرًا عن "الإنسان" في كل أحواله واضطراباته وتطوره ولحظات ظهوره وانتشائه بنجاحاته، وهي أيضًا سجل إنسانيته العارية في لحظاتها الأصفى والأنقى والأصدق بوحًا واعترافًا (وتتفاوت حظوظ السير في هذا الجانب تفاوتًا كبيرًا وعظيمًا).
(4)
ويلاحظ نقاد الأدب والمنظرون له، كثرة كتب السيرة الذاتية بنوعيها؛ «الروائية» الفنية، و«الخالصة» التاريخية في العقود الأخيرة، وأنها أخذت تزاحم الأعمال الإبداعية، خاصة الأعمال السردية التي تتصدرها الرواية. ويرى البعض في ذلك أن السيرة الذاتية هي نوع من البوح النفسي، وأن الإقبال عليها يتصاعد مع تزايد ضغوط الحياة المعاصرة على الكتّاب الذين تحل السيرة الذاتية -في إبداعهم لها- محل المحلل النفسي، أو محل رجل الدين الذي يتلقى اعترافات المثقلين بذنوبهم أو همومهم.
ويذهب البعض الآخر إلى أن الإقبال على كتب السيرة الذاتية من القراء يرجع إلى رغبتهم في تتبع أحوال الشخصيات الاستثنائية، واكتشاف تحولاتها الشعورية، ووقع تحديات الحياة وأحداثها الجسام على نفوس هذه الشخصيات التي ينزلها الجمهور من القراء منزلة النماذج العليا التي يستهدي بها، أو يقلّدها في سلوكها أو مواقفها.. (وللحديث بقية)