الذئب فى البيت العربى

يوسف الحسن
يوسف الحسن

آخر تحديث: الأربعاء 3 سبتمبر 2014 - 12:34 م بتوقيت القاهرة

«داعش» ليست نبتاً شيطانياً، أو تنظيماً مستولداً بالأنابيب، إنه تنظيم سليل فكر وأدبيات وفتاوى معلولة.

هو ليس لقيطاً، منقطع الجذور، عما جرى بالأمس، القريب والبعيد، وتاريخنا، مثل «تواريخ» غيرنا من الأمم، لم يكن يوتوبيا، محررة من الغلو والشرور والوحشية.

ما حدث، سبق له أن حدث، مع تغير الأساليب والأدوات والحاضنات.

عرفته أوروبا فى النصف الأول من القرن السابع عشر، فى حرب الثلاثين عاماً بين الكاثوليك والبروتستانت.

فى مطلع أربعينيات القرن الماضى، قدّم أبو الأعلى المودودى فى الهند التنظير الأساس للإسلام السياسى، من خلال مفهوم «الحاكمية»، واعتبار أن المجتمعات القائمة اليوم فى العالم، هى مجتمعات جاهلية.

فى عام 1958، عثر فتى مصرى (نبيل البرعى) من على سور الأزبكية، على كتاب يضم فتاوى ابن تيمية الجهادية، آمن الفتى بهذه الفتاوى، وشكل أول مجموعة جهادية مصرية وعربية فى القرن العشرين، بعدها بنحو ثمانى سنوات، انضم أيمن الظواهرى وآخرون لهذه المجموعة، وجاء كتاب سيد قطب «معالم فى الطريق» ليشكل مرجعية فكرية إضافية.

فى مصر، ظهر فى عام1977، تنظيم «التكفير والهجرة»، وقاده شكرى مصطفى، وخطف وقتل وزير الأوقاف المصرى، وقبله نشأت مجموعة «الجهاد الإسلامي» التى قادها عبود الزمر ومحمد عبدالسلام فرج. واغتالت السادات، وكذلك نشأت مجموعة سلفية جهادية أخرى، قادها صالح سرية، للهجوم على الكلية الفنية العسكرية المصرية، والاستيلاء على سلاحها فى عام 1974.

•••

فى 1979، قامت «الطليعة المقاتلة» للإخوان المسلمين فى سوريا، بارتكاب مجزرة بشعة لطلاب مدرسة المدفعية فى حلب، بعد أن تم فرز طلاب المدرسة وفقاً لطائفتهم، وتكرر الأمر فى عام 1982 فى مدينة حماة، وسيطرت هذه المجموعة على المدينة طوال عشرة أيام، وحررها الجيش بهجوم قاس، وقدر عدد الضحايا بأكثر من عشرين ألفاً.

فى الجزيرة العربية، كان جهيمان سيف العتيبى، الجندى السابق فى الحرس الوطنى السعودى، يتردد على مجالس العلماء، وأصدر مجموعة رسائل دينية، تحدث فيها عن (الخليفة الذى يفرض نفسه على الناس، ثم يبايعونه). اعتقل قبل حادث الحرم الشريف. لكن تم الإفراج عنه تحت ضغط من بعض العلماء، ثم قاد مئات من المسلحين، واعتصم فى المسجد الحرام، واستمر قتالها نحو ثلاثة أسابيع، وقد شارك معه فى هذا الاعتصام المصرى (محمد شوقى الإسلامبولى)، وسميت مجموعة جهيمان بـ «الدعوة المحتسبة».

•••

مجموعات أخرى لا حصر لها، تأسست على هذا الفكر التكفيرى، وعلى مفهوم أن «كل ما حولنا جاهلية»، وأن «جنسية المسلم هى عقيدته»، وكان خطابها ولغتها أقرب إلى لغة وأحكام الخوارج منها إلى التيار السنى العام. والصوفية مثلاً عند أهل هذا الفكر بدعة وضلالة، ومن ثمرات التعلق بالوثنية، كما اعتبروا أن «إسلام الأنظمة كإسلام التتار» حسب ما ورد فى كتاب «الفضيلة الغائبة».

فى أفغانستان وكردستان، تشكلت حركات سلفية جهادية كثيرة، وكذلك فى المشرق والمغرب والجزيرة العربية والساحل الأفريقى، وكانت جلها ذات فكر «قطبي»، ومن أبرز قياداتها الجهادية على الأرض أبو مصعب الزرقاوى، وفاتح كركار، وتطورت مسمياتها لتصبح «القاعدة فى بلاد الرافدين»، وانضم إليها أبو عمر البغدادى (قتل 2010)، وانتهت معظم هذه التنظيمات إلى حصر «جهادها» فى العراق وسوريا، لتصبح تحت إمرة «أبوبكر البغدادى».

•••

تنظيم «داعش» وأمثاله فى أكثر من مكان، منتسب أو متعاطف معه، يعرفون بعضهم البعض اليوم، من خلال مبدأ «إدارة الفوضى المتوحشة»، وهو مشروع فكرى ألفه شخص يدعى (أبوبكر ناجي) من مصر، ونشره عبر شبكة الإنترنت، وأصدره مركز الدراسات والبحوث الإسلامية.

«العائلة التكفيرية».. تتناسل يوماً بعد يوم، وتنتج كائنات مغولية متوحشة، عابرة للحدود والأزمنة، تركت العقل والنظر، وفكرها يعيش فى حضن فقهاء العصر المملوكى (غزو/ فتح/ نفي/ سبايا/ تكفير.. إلخ). ومع ذلك، فقد استقطبت أجيالاً شابة، تعلمت من أدبياتها وفكرها وسلوكياتها وتعليمها الدينى، ورأت فيها ما يرضى مخيلة الشباب المضطربة.

نعم.. هناك من شجع وحوَّل وحضن، وهناك من تغاضى عن «داعش» وأمثاله، وهناك من سهَّل حركته، وهناك من السياسيين والإسلاميين لا يدينون «داعش»، خشية أن يستفيد من هذه الإدانة خصم سياسي! وهناك من يستعد للمشاركة فى «الحرب على داعش»، بعد أن أصبحت هذه الحرب عنوان الاستحقاقين الإقليمى والدولى الداهمين.

لكن أى حرب على «داعش»، من دون أفق سياسى، ومن دون تجديد للفقه الإسلامى، ومن دون تعليم يدخل الأجيال الراهنة عالم العقلانية واللاعنف.. ستظل محدودة النتائج.

كثيرون يعتقدون أن «الخلافة الداعشية»، مصيرها إلى زوال، أمام هذه الجبهة الواسعة من الأعداء ضدها، ستتمكن هذه الجبهة من التخلص من «الخليفة»، مثلما تخلصت من أسامة بن لادن. لكن هل انتهت «القاعدة» بموت بن لادن؟ أم تناسلت أشر منها؟

هناك سيناريو يحتاج إلى تدقيق إضافى، ومفاده، أن هذا التحالف ضد إرهاب «داعش» (جبهة النصرة لا أحد يتحدث عنها) سيوقف تمدد هذه «الخلافة»، ولا يستبعد أن يتم ذلك وفق «صفقة»، توافق فيه «الخلافة» على ضبط غريزتها التمددية، وتبقى «وطناً» للسلفيين الجهاديين، تروى عطشهم الدينى للخلافة الإسلامية من ناحية، وتوفر لعامة المسلمين نموذجاً بشعاً لدولة، مقارنة مع نماذج دولهم الراهنة.

•••

فى كل الأحوال، هى معركة ليس معروفاً مداها الزمنى، ولا مآلاتها، لكنها ليست الطريق الوحيد لهزيمة هذا الفكر العبثى والمتوحش.

لقد ذهب هباء، كل ما كتبناه وبشّرنا به، وسوّقناه، عن الوسطية والاعتدال وحقوق الإنسان والتسامح والرحمة، واحترام التنوع والتعدد والاختلاف، والحداثة والتمدن.

كم يشعر المرء بالأسى، حينما يستحضر هذه النماذج «الداعشية» العابرة للجغرافيا والأزمنة، كيف كان «الاعتدال» غير قادر أو غير راغب فى قول كلام حاسم: «إن ما جرى ويجرى ليس من الإسلام»، و«إن هناك فصلاً نهائياً بين الإسلام والعنف، وإن الخلافة هى مسألة تاريخية وليست عقدية».

الحرب وحدها لا تنهى «الداعشية»، ولا «الجهادية المعولمة»، سيتفرق أتباعها فى جنبات الأرض، وبما يملكونه من جهالة وقسوة. قد تجف منابع التمويل والتسليح، لكن الفكر الداعشى السلفى الجهادى، سيظل يجد من ينظّر له، ويستثمر فيه سياسة ونفوذاً واستقطاباً، وستظل كتبه وفتاوى علماء من زمن مضى، حاضرة، فى المناهج التعليمية. وفى التبشير بالاستهانة بالدولة الوطنية والذاكرة الوطنية. وتبنى الحاكمية و«الفريضة الغائبة».

ظهرت السلفية الجهادية فى القرن الرابع الهجرى، ثم تجدد ظهورها فى القرن السابع الهجرى (فتاوى الجهاد)، ثم ظهرت فى القرن الثانى عشر. وها هى اليوم بيننا على مدى أكثر من تسعة عقود.

•••

نعم.. هناك أزمة عميقة فى الفقه السياسى الإسلامى، وسيظل خط الإنتاج السلفى الجهادى التكفيرى، يفرِّخ وينشط، طالما هناك فكر معلول سائد، وحَوَل سياسى رسمى وبطالة فقهية مؤسسية، تعجز عن تصحيح معنى الجهاد، ومقولة أهل الذمة، وتفرِّط فى إعادة الإسلام إلى دائرة الروح والرحمة والعدل والمحبة، وتتجاهل أن الإسلام هو إسلام المقاصد، لا إسلام أشخاص أو علماء، أدخلوا فى تأويل الإسلام رغباتهم وظروفهم التاريخية.

كيف يمكن أن نصدّق أن بعض أهل الموصل من المسلمين، يساعد «داعش» على الاستدلال على جيرانهم من الطوائف الأخرى؟

نحتاج إلى جهات عديدة، وعقول حكيمة وعمل مؤسسى مستدام للانشغال فى مسألة صيانة الدين فى أزمنة التغيير، ومن معالجة المأزق الذى أدخله فيه الإسلام الحركى.

نحتاج إلى إرادة سياسية، تزيل الفساد والظلم، وتجدد الفقه والفكر، وتنوّر العقول، وتعتبر أن كل نفع يعود على الناس هو جهاد.

الذئب فى البيت.. منذ زمن.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved