إندونيسيا.. التجربة الأكثر إعجازًا بين النمور الآسيوية

سيد قاسم المصري
سيد قاسم المصري

آخر تحديث: الخميس 3 سبتمبر 2015 - 12:40 م بتوقيت القاهرة

أما لماذا هى الأكثر إعجازا.. فلأنها كانت هى الأكثر تخلفا.. ففى منتصف القرن الماضى عندما نالت استقلالها عن هولندا كان متوسط دخل الفرد السنوى بها هو ٥٠ دولارا بينما كان المتوسط فى الهند ١٠٠ دولار وفى مصر ٢٠٠ دولار.. وقد وصف أحد الكتاب الغربيين إندونيسيا فى ذلك الوقت بأنها «مستنقعات يسبح فيها العراة وتعج بالناموس والحشرات الناقلة للأمراض وتتفشى فيها الأمراض المستوطنة والأوبئة».

يضاف إلى ذلك الموقع الجغرافى الصعب فهى أرخبيل مكون من ستة آلاف جزيرة مأهولة بالسكان وأكثر من عشرة آلاف جزيرة غير مأهولة.

وتمتد عبر ثلاث مناطق زمنية وتمتد عبر مساحة تقطعها الطائرة النفاثة فى ست ساعات.. ولك أن تتخيل مقدار الصعوبات التى تواجه بسط سيطرة الحكومة على هذا الاتساع وضبط الأمن فى هذه البقاع التى لا يمكن الوصول إليها إلا من خلال البحر أو الجو.

وفضلا عن ذلك فإن عدد السكان يربو على المائتى وثلاثين مليون نسمة، والتركيبة السكانية متعددة الأعراق والأجناس واللغات.. وقد ظلت إندونيسيا «أو ما كان يعرف قبل الاستقلال بجاوة وسومطرة» ظلت بدون لغة قومية حتى عام ١٩٢٨ عندما قررت حركة وطنية مدنية اعتماد لغة الملايو كلغة قومية فى إندونيسيا.. لذلك فإن اللغة الإندونيسية يتعلمها الأطفال فى المدارس وليس فى البيوت التى يتحدثون فيها باللغات القبلية.

•••

الإسلام كان له الفضل الأكبر فى توحيد هذه القبائل وهذه اللغات واللهجات بالإضافة إلى الشعور الوطنى الذى أرهفته الرغبة فى مقاومة الاستعمار والاحتلال الهولندى.

وقد قاد سوكارنو هذه الحركة الوطنية التى سرعان ما تحولت إلى حركة مقاومة مسلحة لمقاومة محاولات هولندا إعادة احتلال إندونيسيا، وأعلن سوكارنو استقلال البلاد فى ١٧ أغسطس ١٩٤٥.

ودار قتال ضار مع قوات الغزو الهولندية والبريطانية التى نجحت فى احتلال جاكرتا وأوهمت العالم أن حركة سوكارنو هذه ما هى إلا «مذياع فى الأدغال» لذلك كانت الحركة الوطنية فى أمس الحاجة إلى الاعتراف الدولى ولو من قبل دولة واحدة.

وقد كان.. فقد كانت مصر هى أول دولة فى العالم تعترف باستقلال إندونيسيا الأمر الذى اعتبرته هولندا عملا عدائيا، وقد قررت مصر إعطاء هذا الاعتراف زخما عمليا وقانونيا وذلك من خلال إيفاد مبعوث خاص لإبلاغ الحكومة الوطنية بهذا القرار وصدرت التعليمات لقنصل مصر فى بومباى محمد عبدالمنعم «المعروف جدا فى إندونيسيا حتى هذه اللحظة» بالتوجه إلى أدغال إندونيسيا فى طائرة داكوتا مستأجرة وفى رحلة محفوفة بالمخاطر.

ولم تكتف مصر بذلك بل وجهت الدعوة لوفد إندونيسى الذى استقبل فى مصر بحفاوة شعبية ورسمية بالغة تجاوزت حدود المراسم المعتادة حيث قام الملك فاروق بإقامة مأدبة رسمية على شرف الوفد، وقامت الحكومة بتوقيع معاهدة صداقة مع إندونيسيا، وهى أول معاهدة دولية فى تاريخ إندونيسيا.

وعندما وصلت إلى جاكرتا بعد خمسة وأربعين عاما على هذه الواقعة وجدت الكثيرين يذكرون محمد عبدالمنعم مبعوث الحكومة المصرية بل إن اسم «مستر مونعم» معروف لدى العامة، وعندما حل العيد الخمسين لاستقلال إندونيسيا قررت الحكومة الإندونيسية منح اسمه أعلى أوسمة الدولة وكذلك اسم المرحوم محمود فهمى النقراشى واسم المرحوم عبدالرحمن عزام أمين الجامعة العربية الأسبق الذى سعى لاستصدار قرار من الجامعة العربية للاعتراف الجماعى بإندونيسيا.

•••

وهكذا ترى أن لمصر رصيدا ضخما لدى الشعب الإندونيسى يضاف إلى رصيد الإسلام والأزهر ولا يمكن لمن لم يزر إندونيسيا أن يعرف مقدار وقيمة الأزهر لدى الشعب الإندونيسى التى تكاد تبلغ درجة التقديس، والإسلام فى إندونيسيا معتدل بوجه عام.. والتطرف العنيف مستجلب من الخارج والغلو فى الدين يكاد ينحصر فى منطقة «اتشيه» فى الطرف الشمالى من جزيرة سومطرة، وبالرغم أن المسلمين يشكلون ٩٠٪ من السكان بينما يتوزع العشرة بالمائة الباقية على المسيحيين والهندوس والبوذيين واللادينيين، إلا أن جميع الأديان تعامل رسميا على قدم المساواة.. ففى وزارة الشئون الدينية يوجد وكيل وزارة يختص بأحد الأديان، كما أن رئيس الدولة يشارك فى الاحتفالات الرئيسية لجميع الأديان وفضلا عن ذلك فهناك الفلسفة الرسمية للدولة التى تسمى «البانشا سيلا» وتعنى المبادئ الخمسة التى يلتف حولها المجتمع الإندونيسى بكل طوائفه التى تدرس فى المدارس ويبدأ كل احتفال رسمى بتلاوتها التى تضم مبدأ الإيمان بالإله الواحد ومبدأ الوحدة من خلال التنوع.

•••

لعل هذا التماسك المجتمعى هو أهم عناصر الطفرة التنموية التى حققتها إندونيسيا التى قفزت بمتوسط دخل الفرد من ٥٠ دولارا عام ١٩٥٠ إلى ٤٤٠٠ دولار حاليا وأصبح اقتصادها الثامن عشر دوليا من حيث الناتج المحلى والخامس عشر من حيث القوة الشرائية وأصبحت عضوا فى مجموعة العشرين التى تضم الاقتصاديات الرئيسية فى العالم وهى تعتبر أكبر اقتصاد فى جنوب شرق آسيا.. صحيح أن إندونيسيا تمتلك موارد طبيعية هائلة من النفط والغاز والنحاس والذهب، وكان لارتفاع أسعار النفط فى السبعينيات أكبر الأثر من دفع نمو الاقتصاد القومى، إلا أن الطفرة الحقيقية جاءت فى الثمانينيات من خلال القضاء على الروتين الحكومى من خلال سياسة الـDeregulations أى تبسيط اللوائح، فبعد أن كانت صادرات النفط تمثل ٨٠٪ من الصادرات، أصبحت الآن الصادرات غير النفطية هى التى تمثل ٨٠٪ من مجموعة الصادرات دون أن تقل صادراتها النفطية، ويكفى أن تعلم أن ميزانها التجارى مع أمريكا مثلا يحقق فائضا يتجاوز الثمانين مليار دولار.

•••

نداء إلى السيد الرئيس:

بقى موضوع مهم.. يهم البلدين.. أرجو أن يتطرق إليه الرئيس السيسى فى زيارته التاريخية لهذا البلد الشقيق، وهو موضوع تنقية التراث الإسلامى ولا أقول تجديد الخطاب الدينى لأنه إذا ظل التراث الإسلامى على حاله فلن يتغير الخطاب الدينى.

والحل يكمن فى تطبيق الاستراتيجية الثقافية للعالم الإسلامى التى أصدرها مؤتمر القمة الإسلامى التاسع فى داكار عام ١٩٩١ ولم تُفعل حتى الآن بالرغم من صدورها بالإجماع.. أى إنها تحمل موافقة رؤساء مصر وإندونيسيا وجميع دول العالم الإسلامى.

والاستراتيجية الثقافية هذه تطالب بتنقية التراث الإسلامى من خلال إعادة النظر فى هذا التراث دون وجل ودون محظورات ودون إضفاء هالة التقديس عليه، فلا شىء مقدسا سوى وحى السماء أى القرآن وهذا بنص قرار القمة الإسلامية الذى يضيف بأن الأمم التى لا تراجع تراثها وتاريخها مراجعة نقدية لن يكتب لها التقدم والازدهار.

فلماذا نذهب بعيدا ولدينا هذه الاستراتيجية الشاملة، ولماذا نتعامل فرادى مع هذا الموضوع الخطير بينما لدينا القاعدة المشتركة التى التف حولها العالم الإسلامى بأسره.

أرجو ـ وألح فى الرجاء ـ أن ننتهز هذه الفرصة يا سيادة الرئيس باعتباركم الرئيس الحالى للقمة الإسلامية وتتفق مع إندونيسيا ـ أكبر دولة إسلامية فى العالم ـ على تفعيل هذه الاستراتيجية.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved