«12 رجلا غاضبا»... قراءة جديدة (1ــ2)

محمود عبد الشكور
محمود عبد الشكور

آخر تحديث: السبت 3 سبتمبر 2022 - 8:40 م بتوقيت القاهرة

كانت مناسبة عظيمة أن أشاهد الفيلم الأمريكى «12 رجلا غاضبا» على شاشة سينما زاوية، بعد سنواتٍ طويلة من مشاهدتى له فى برنامج «نادى السينما» الشهير، وكانت سعادتى أكبر بأن تكون قاعة العرض كاملة العدد، ومليئة بشباب وبنات فى العقد الثانى والثالث من العمر، مما يؤكد أنه لا بديل عن مشاهدة الأفلام فى دور العرض، رغم أنها متاحة على المنصات، ومما يؤشِر إلى شغف الأجيال الجديدة بمشاهدة الأفلام الكلاسيكية، بالدرجة نفسها التى يتابعون بها الأفلام الحديثة.
لم يفقد هذا الفيلم سحره، بل لعلى أكتشف فيه دوما مزيدا من الأفكار المدهشة، التى قدمت بطريقة فنية لامعة، وبقاء الفيلم الذى أخرجه سيدنى لوميت، وكتب له ريجنالد روز، عن مسرحية تليفزيونية قدمها بنفس العنوان، وتأثيره العابر للأجيال، يذكرنا بقاعدة النقد الذهبية: الفيلم العظيم هو الذى يعرف ماذا يقول؟ وكيف يقول؟ ويفعل ذلك بطريقةٍ خلاقة مبدعة.
وقد فعل الفيلم ذلك، معتمدا على دراما قوية، وصراع أفكار لا يتوقف، وأداء رفيع من ممثلين كبار، على رأسهم هنرى فوندا، ولى جاى كوب، وبإدارة مخرج كبير، عرف كيف يدير 15 ممثلا، ويضبط إيقاع حوارهم الذى لا يتوقف فى حجرة صغيرة، وبتكويناتٍ وانتقالات مونتاجية محسوبة، وباقتصاد كامل فى توظيف جمل موسيقية قليلة.
الفيلم حطم أيضا أفكارا كثيرة شائعة، فالبعض يرى أن كل فيلم لا بد أن يصور فى أماكن كثيرة، بينما فيلمنا الذى يبلغ زمن عرضه 96 دقيقة، تجرى أحداثه كلها تقريبا داخل مكان واحد، ولا يخرج منه إلا لمدة ثلاث دقائق فقط، والشائع كذلك أن تكون هناك قصة حب بين رجل وامرأة فى كل الأفلام، وفيلمنا لا توجد فيه امرأة من الأساس، وقصة الحب فيه مع العدالة والحقيقة، وليست مع امرأة.
والشائع أن السينما صورة فقط، وأن الحوار يجب أن يكون قليلا، وفيلمنا لا يتوقف فيه الحوار، والمشهد الأول فى الحجرة عبارة عن ثرثرة فارغة قبل مناقشة المحلفين للحكم على شاب قتل والده، بأنه مذنب أو غير مذنب، وجزء كبير من الحوار بعد ذلك، مصاحب بالصوت العالى للممثلين، وبصوت المروحة الهوائية الصاخب والمزعج، ومع ذلك فلا نفقد ذرة من الاهتمام، لأن الفيلم يعتمد على تفصيلات وبناء درامى جيد، وصراع متصاعد محسوب، ولأن الحوار درامى وفى مكانه.
المسألة إذن ليست فى وجود حوار طويل أو قصير أو عدم وجود حوار، وإنما فى توظيف العناصر الفنية فى مكانها، فضجيج صوت المروحة يضاعف من تأثير الصراع بين المتحاورين، وكأنهم يتكلمون على خلفية ضجيج مصنع، أو وسط معركة حربية، لذلك يصبح الصخب تعبيرا دراميا، وليس ضوضاء يجب حذفها.
الفيلم أيضا نموذجى فى التعبير عن قوة الدراما محكمة الصنع، وفق الوحدات الثلاث الكلاسيكية: وحدة الحدث، ووحدة الزمان، ووحدة المكان، وهو الشكل الذى أقره أرسطو كعنوان على الدراما عموما، ثم كسره المسرح بعد ذلك، بتعدد الأزمنة والأمكنة، كما فى مسرحيات شكسبير العظيم، ومرة أخرى، فإن المسألة ليست الالتزام بالوحدات الثلاث، أو كسرها، المهم هو كيف تقدم معالجة درامية قوية؟ وكيف تدير الصراع فى الوقت المحدد؟ وكيف تمرر الفكرة فى ثنايا الحكاية بصورة ذكية وعبر أدوات الفن والدراما وليس رغما عنها؟
فى كل ذلك نجح الفيلم نجاحا باهرا، فالفيلم الذى يبدأ بحركة رأس الكاميرا إلى أعلى (تلت أب)، لنتأمل أعمدة المحكمة الشاهقة من الخارج، ثم ينتقل لوميت بذكاء إلى بهو المحكمة من الداخل، فى حركة عكسية لرأس الكاميرا من أعلى إلى أسفل (تلت داون)، يقول بالصورة وحدها، وقبل مناظراته الطويلة، إنه سيعرض مراوحة فكرة العدالة داخل محكمة صعودا وهبوطا، وبين الأعلى والأسفل.
وعندما يختم الفيلم مشاهده بخروج بطله ديفز (هنرى فوندا) إلى واجهة المحكمة، وهو المحلف الذى أقنع زملاءه بأن المتهم بالقتل غير مذنب، تظهر الأعمدة العملاقة من جديد، ولكن لوميت يجعل زاوية الكاميرا منخفضة، فيبدو ديفز نفسه فى طول الأعمدة الحجرية، التى تحمل مبنى المحكمة.
معنى الصورة هنا أيضا عبقرى، فالعدالة ليست مجرد محكمة ضخمة مهيبة تحملها أعمدة عملاقة، ولكن العدالة أفراد عمالقة وعظماء يدافعون عن الحقيقة، ولا يصدرون حكما إلا بعد التأكد منه، فإذا تذكرنا أن ديفز مهنته مهندس معمارى، فإنه يبدو جديرا حقا بأن يحتل مكانه بين أعمدة المكان الشاهقة، بعد مرافعته المجيدة عن المتهم الشاب، فى حجرة المحلفين.
هذا نموذج فى البداية والنهاية لفهم لوميت الفذ للدراما، وتعبيره القوى عنها بالصورة فى فيلم مادته الحوار، وسيظهر ذلك أيضا فى تكويناته، وفى أحجام لقطاته، وفى طريقة ترتيب المملثين فى كل تكوين، ارتباطا بمعنى كل لقطة، وفى الاختيار بين مشهد مصور فى لقطة واحدة، له تاثير ممتد، ومود عام، أقرب إلى ثرثرة تمهيدية للصراع، مثل أول مشهد فى حجرة المحلفين، وبين قطعات سريعة حادة، عند التصويت من خلال كل محلف، عما إذا كان المتهم مذنبا أم غير مذنب.
هناك حسبة دقيقة للاختيار، وفق مغزى الدراما، بين حضور المحلفين الاثنى عشر ككتلة فى لقطة عامة، وبين تقسيمهم إلى كتل منفصلة فى تكوينات مختلفة، وفقا لآرائهم، ولتبدل مواقفهم، وبين كلوزات تضع ما يشبه الخطوط، تحت ما تقوله الشخصية.
لا نفقد أبدا إحساسنا بوحدة المكان والزمن، رغم أن الفيلم يصور على عدة أيام، وبدون ترتيب، ولا نفقد الاتجاهات أبدا، رغم وجود تنويعات هائلة فى زوايا اللقطات، تقريبا لا توجد زاوية لم يصور منها الحوار، بما فى ذلك الزاوية الفوقية التى تمثل عين الطائر، والتى نراها للمحلفين حول المائدة، فى لقطة ثابتة، مع عناوين النهاية.
هذا عن الشكل، وفى المقال القادم أحدثك عن مضمون الفيلم الخطير.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved