عملات خرجت إلى التقاعد (2)
عاطف معتمد
آخر تحديث:
الثلاثاء 3 سبتمبر 2024 - 7:50 م
بتوقيت القاهرة
هذه ورقة العشرين جنيها، والرسم البطل فيها مأخوذ نقلا حرفيا من الجدارية اليسرى لبهو المعبد الكبير لرمسيس الثانى فى أبو سمبل على مشارف الحدود الحالية لبلادنا مع السودان الشقيق.
التصميم على ورقة العشرين جنيها يكاد يكون صورة طبقة الأصل من الحفر الغائر الممثل فى معبد أبو سمبل.
أقول «يكاد» لأن هناك فروقا طفيفة لكنها بالغة الأهمية فى الفن المصرى القديم، وإذا زرت معبد أبو سمبل بنفسك ستكتشف الفروقات التالية:
أن الصورة على ورقة العشرين جنيها تنظر فى اتجاه عكسى لوضعها الحقيقى فى المعبد. لقد ذهب الفنان المصرى القديم إلى تصميم رمسيس الثانى على عربته الحربية مندفعا من الغرب للشرق أى من اليمين إلى اليسار على الجدارية وليس من اليسار إلى اليمين كما يبدو على هذه العملة الورقية.
لقد خرج جيش مصر بقيادة رمسيس الثانى من بلادنا مندفعا عبر سيناء (من الغرب للشرق) بهدف محاربة من يهددون مصالحها الجيواستراتيجية من جهة مملكة آسيوية اتخذت من بلاد الشام معقلا لشن هجومهم على مصر.
إن تصميم ورقة العشرين جنيها وإن استطاع الحفاظ على أرجل الخيول فبدت وكأنها أربع أقدام بما يوحى بوجود فرسين يطيران بالعجلة الحربية السريعة وليس فرسا واحدا إلا أن الورقة أغفلت أن الذراع اليمنى الممشوقة لرمسيس مرسومة فى الأصل وكأنها ذراعين وأن القوس المشدود مرسوم فى المعبد وكأنه قوسان.
ويذهب بعض المفسرين إلى أن كلا من الأقدام الأربع لفرسى العربة ليست إلا لفرس واحد، وأن القوسين ليسا إلا لقوس واحد، والذراعان اليمنيان الممشوقان ليسا إلا لذراع واحدة، وقد جاء كل ذلك فى الحفر الغائر عمدا ليعطى عمقا للصورة ويمنحها «ديناميكية» فتبدو كأننا نشاهد فيلما متحركا لحدث تجاوز عمره 3200 سنة.
أما أسباب تخليد الفنان المصرى القديم لهذا الحدث فيمكن إيجازه فيما يلى:
لم تكن الحدود الشرقية لسيناء مع فلسطين هى حدودنا كما اليوم، بل اخترع التاريخ المصرى المصطلحات التى ستعرفها المدارس الأوروبية بعد آلاف السنين مثل: «الأرض العميقة» و«مناطق تكسر القوى» و«النطاق العازل» والـ«عمق الاستراتجى».
أما المصطلح الأهم الذى تتبناه إسرائيل اليوم فقد اخترعته مصر قبل آلاف السنين وهو «نقل المعركة إلى أرض الأعداء».
النقش الغائر الذى نراه فى معبد رمسيس الثانى فى «أبو سمبل» يجسد مشهدا من معركة «قادش» التى دارت رحاها بين مصر ومملكة «خيتا» التى تسميها الكتب المدرسية مملكة «الحيثيين».
تقع قادش اليوم فى قلب الأراضى السورية قرب حدودها مع لبنان وبالتحديد على نهر «العاصى» وهو اسم له دلالة أيضا فى العمل الجغرافى. فإذا كان من غير المعروف من أطلق اسم «العاصى» على ذلك النهر فإن التفسير معروف وهو أن هذا النهر خلافا للأنهار العظمى المجاورة ــ مثل دجلة والفرات ــ يسير «عاصيا» الجغرافيا والجيولوجيا فيتجه من الجنوب للشمال.
لكن من عجبٍ أن هذا النهر العاصى الذى دارت عنده معركة قادش يناظر نهر النيل فيسير مثله من الجنوب للشمال. ولعل فى ذلك ما يذكرنا بما سجلته بعض المصادر من أن المصريين القدماء كانوا يتندرون ــ بدوافع المركزية المصرية المبالغة فى الذات ــ فيصفون نهرى دجلة والفرات بأنهما نهران يسيران فى الاتجاه الخطأ مخالفة للاتجاه «المقدس» الذى يسير فيه النيل من الجنوب للشمال.
خلد رمسيسى الثانى انتصار معركة قادش فى عديد من المعابد المصرية وكلف الأدباء بتدوين أشعار تصور الانتصار عملا إعجازيا سحق به رمسيس رءوس الأعداء فأماتهم بضربة صاعقة ماحقة وقضى عليهم إلى الأبد.
فى العصر الحديث ستكشف الدراسات الأثرية فى قادش وغيرها أن ما تم لم يكن نصرا حاسما لمصر أو مملكة خيتا بل توازنا فى القوى انتهى باتفاق ومعاهدة سلام بين الطرفين لأن أى منهما لم يستطع أن يحسم الأمر لصالحه.
وخلافا لمن يقولون إن رمسيس الثانى بالغ فى تمجيد ذاته وصور الأمر انتصارا ساحقا إلا أننا بمعايير الجغرافيا السياسية والعسكرية يمكننا القول إنه كان محقا، إذ إن «نقل المعركة إلى أرض الأعداء» هو نصر لا جدال فيه حتى لو كانت النتيجة وقف عدوانهم خارج تخومنا.
لكن حتى لا نبالغ فى أمجاد رمسيس الثانى أكثر من اللازم ينبغى القول إن هذ الملك لم يخترع هذا المصطلح فقد سبقه ملوك آخرون أقربهم إليه والده الفرعون «سيتى الأول» (حكم مصر فيما بين 1290 و 1279 ق. م) الذى كان قد اتخذ من قادش تخما شماليا لمصر.
وكل هؤلاء ليسوا إلا مقلدين للقائد الرائد الفريد «تحتمس الثالث» الذى كان سابقا على رمسيس الثانى بقرنين من الزمان بالتمام والكمال (حكم مصر من 1479 إلى 1425ق.م).
يعود الفضل لتحتمس الثالث فى بناء أكبر خريطة لإمبراطورية مصرية عبر التاريخ وصياغة مفهوم العمق الاستراتيجى ونقل المعارك إلى أرض الأعداء تماما كما تفعل القوى العظمى اليوم فى 2022.
قبل مائتى عام من معركة قادش التى يمجدها رمسيس الثانى تجاوز تحتمس الثالث أرض قادش إلى ما هو أبعد منها فقامت مصر فى عهده بغزو ساحل الليفانت واخترقت بلاد الشام فوصلت إلى تخوم مملكة خيتا نفسها فى الإقليم الذى نسميه اليوم جنوب غرب تركيا الحديثة.
كيف نجح رمسيس الثانى فى أن يخطف أبصارنا ويشغل خيالنا بمعركته فى قادش وانتصاره المسجل فى نقش غائر خالد فى أبو سمبل ونأخذ منه مشهده الأثير المثير فنضعه على ورقة العشرين جنيها؟
الحقيقة أن أبو سمبل موقع فريد فى جغرافية وآثار مصر، يخلد الموقع جهود الملك رمسيس الثانى سواء فى الحرب أو السلم ويترك لنا ثبتا فى تماثيل ضخمة مروعة للآلهة الكبرى، بل ولم يتردد المهندسون آنئذٍ فى تصوير رمسيس بأحجام ضخمة لا نظير لها بل ودسه بين الآلهة فى دلالة على عبادة الذات التى وصلت إليها مصر فى عهد رمسيس الثانى المفتون بانتصاراته وفتوحاته خلال حكمه الذى تجاوز 65 سنة (من 1279 وحتى 1213 ق.م).
يتألف الصرح التذكارى فى أبى سمبل من معبدين: الكبير ومخصص لرمسيس وفتوحاته ومعركة قادش وقدس الأقداس الذى تتعامد فيه الشمس على وجهه، والمعبد الثانى الأصغر نسبيا والمهدى لزوجته «نفرتارى».
على جانبى المعبد الكبير لوحتان تحتويان مضمون أنشودة تمجيد رمسيس الثانى باعتباره محبوبا من جميع الآلهة (حور، ماعت، منثو، ست، أتوم، أمون رع، بتاح).
وقد عرضنا تفاصيل تلك الأنشودة فى مقال سابق فى الشروق عنوانه «النار العاتية فى أبو سمبل».