الانتفاضات العربية بين «الميدان» ومنبر الأمم المتحدة

طلال سلمان
طلال سلمان

آخر تحديث: الأربعاء 3 أكتوبر 2012 - 8:25 ص بتوقيت القاهرة

لم تصل الانتفاضات العربية بشعاراتها الثورية التى ملأت بها جماهيرها «الميدان» فى العديد من العواصم والمدن والأرياف، إلى مقر الأمم المتحدة فى نيويورك، ولم تتردد أصداء هتافاتها المدوية فى قاعات الكلام فى الجمعية العامة.. بل لقد تبدى من ذهب باسمها إلى هذه المؤسسة الدولية التى صار ينظر إليها كملحق لوزارة الخارجية الأمريكية، وكأنه يخاطب أولا وأخيرا أصحاب القرار فى واشنطن، مع مراعاة أصول اللياقة مع كبار المسئولين فى الدول الأخرى ممن كان لا بد أن يلتقيهم.

 

ولعل الأنظمة الجديدة التى نسبت نفسها إلى «الربيع العربى» كانت تتعجل مثل هذه اللقاءات مع أركان الإدارة الأمريكية، ووزيرة الخارجية على وجه التحديد، لتطمئن إلى ثبات مواقعها، وبالتالى «شرعيتها» فى النظام العالمى الجديد.

 

●●●

 

أما الذين كانوا يعقدون الآمال العراض على حجم التحولات التى تمت فعلا فى البلدان التى أسقطت انتفاضات شعوبها أنظمة الطغيان فيها، فقد تيقنوا أنهم تسرعوا فاندفعوا مع تمنياتهم وتوقعاتهم أن تشهد الأمم المتحدة تظاهرة سياسية عربية تؤكد للعالم أن «العرب» قد استعادوا وعيهم، وأنهم فى الطريق إلى استعادة دورهم ورصيد أوطانهم فى سياسات العالم.. وربما بالغ البعض فى توقعاته فافترض أن القيادات الجديدة قد تؤكد ــ عبر وجودها وخطابها واتصالاتها بمن يشبهونها فى الطموح والتطلعات ــ القطع مع ماضى الارتهان للإرادة الأمريكية، والتوكيد على أنها قد استعادت قرارها الوطنى المستقل ووعيها بضرورة استعادة دورها الفاعل، لا سيما فى القضية الفلسطينية، باعتبارها العنوان لقضايا المصير.

 

لم يصل الطموح بأحد، طبعا إلى الافتراض بأنه سيشهد إعادة للحدث التاريخى الذى احتضنته هذه المؤسسة الدولية فى مثل هذه الأيام من عام 1960 والذى كان فيه أقطاب دول عدم الانحياز، وفى طليعتهم الرئيس جمال عبدالناصر، يتصدرون المشهد، مؤكدين حقهم وجدارتهم بأن يكونوا أصحاب القرار فى أوطانهم وقوى مؤثرة فى القرار الدولى لا سيما فى ما يتصل بمعركة تحرير الشعوب ومساعدتها على بناء دولها المستقلة بإرادتها.. فى مواجهة نزعة التسلط الأمريكى.

 

فى أى حال، فقد تهاوت التوقعات المتخيلة، بل التمنيات، أمام تصاغر القيادات العربية التى ذهبت إلى نيويورك كبديل ثورى من رئاسات ما قبل انتفاضات الميدان التى لما يتكامل إنجازها السياسى، ولما تنجب قيادات العهد الجديد فى الأقطار حيث تم إسقاط الطغاة.

 

●●●

 

لم تكن «الثورة»، بما هى القطع مع سياسات عهود الطغيان، حاضرة لا فى خطب قادة المرحلة الانتقالية، ولا فى اتصالاتهم ولقاءاتهم ومباحثاتهم مع أقرانهم من المسئولين فى دول العالم المختلفة، ومع الإدارة الأمريكية على وجه التحديد.

 

وكيف سيختلف الخطاب إذا كان «العهد الجديد» فى الدول التى اسقط الميدان طغاتها، سيمد يده فى طلب القروض والمساعدات والهبات، اقتصاديا وعسكريا واجتماعيا وثقافيا، متعهدا التزام الثوابت السياسية لـ«العهد المباد» متوجها فى طلب العون إلى الإدارة الأمريكية مباشرة، ومعها وعبرها إلى البنك الدولى وصندوق النقد الدولى.. قبل الحديث عن الشئون العسكرية.

 

كل ما اختلف فى خطاب الخلف عن خطاب السلف ان التعابير الإسلامية قد أزاحت كلمات العروبة والوحدة وفلسطين وحركات التحرير، واستبدلتها بما يليق أن يقال فى حضرة القيادة الأمريكية.. ولقد نال هذا الخطاب مباركة الإدارة الأمريكية التى لا تفتأ تبدى إعجابها وتقديرها للدين الحنيف والرسول العربى، وان أغضبها فأخرجها عن طورها ما حدث للسفارات الأمريكية وبعض موظفيها فى أكثر من بلد عربى كردة فعل على الفيلم الحقير.. وهكذا اضطر بعض الذين رفعتهم الانتفاضات، ولو بالمصادفة، إلى موقع القرار، إلى تقديم الاعتذار العلنى (هلا انتبهتم إلى أن بعض من ينسبون أنفسهم إلى «الربيع العربى» يقلدون الأمريكيين حين يؤدون التحية للعلم الوطنى؟!).

 

لم يختلف خطاب رموز الإسلام السياسى الذين تصدروا المشهد فى المنبر الدولى، باسم الثورة، عن خطب أسلافهم: لا استحضار لقضية فلسطين بجوهرها، وبالتالى لا تغيير جذريا فى الموقف من إسرائيل. (وعلى الأرض يستمر تدفق النفط والغاز إليها وبأسعار مخفضة، مما يؤكد الحرص على معاهدة الصلح معها، فى حين تتفجر الأزمات المعيشية المتلاحقة فى مصر، وبينها ما يتصل بها بنقص النفط والغاز للاستهلاك المحلى).

 

●●●

 

لم يستطع قادة المرحلة الانتقالية فى كل من مصر وتونس وليبيا أن يقدموا أنفسهم بوصفهم رموزا لعهد جديد قطع ــ سياسيا ــ مع عهد الطغيان، واختط منهجا سياسيا مختلفا فى الداخل كما فى الخارج.

 

وكيف يمكن اعتماد منهج مختلف إذا كانت الأنظمة الجديدة تحاول تسويق خطها «الإسلامى» عبر التوكيد على «سلميته» وإعجابه بالتجربة الأمريكية فى الديمقراطية وحاجته إلى واشنطن فى الاقتصاد وفى التسليح وفى استجلاب المساعدات العربية، التى لا تأتى بغير قرار من الإدارة الأمريكية؟!.

 

وإذا كان الرئيس المخلوع حسنى مبارك قد ادعى لنفسه دورا مميزا فى السياسة الدولية، عبر التزوير غير المسبوق فى الصورة الرئاسية الشهيرة، فان الرئيس الآتى باسم ثورة 25 يناير قد تجنب مثل هذا الادعاء، ولكن خطابه السياسى لم يختلف كثيرا عن خطب السلف فى ما يتصل بالقضايا العربية عموما، وفلسطين خصوصا.. مع الإشارة إلى أن ما يتصل بالموقف من النظام السورى لم يكتمل فى مبناه كما فى مؤداه، الا فى مؤتمر حزب العدالة والتنمية التركى فى أنقره، والذى أراد منه رئيس الوزراء التركى أردوغان تظهير الملامح الأولى لحلف فى المنطقة قاعدته إسلامية اللغة، وإن ظل التوجه فيه غربيا، وأمريكيا على وجه التحديد.

 

●●●

 

مع ملاحظة شىء من الاختلاف فى خطاب الإسلام السياسى العربى عن خطاب الإسلام السياسى التركى الذى يحمل مضامين إمبراطورية تولى التعبير عنها فى المؤتمر رئيس الوزراء وقائد حزب التنمية والعدالة رجب طيب أردوغان مندفعا إلى أبعد مما تعودناه من المنظر الإيديولوجى للعثمانية الجديدة أحمد داوود أوغلو.. فإن الحديث عن فلسطين التى تمثلت بأحد قادة الإسلام السياسى فى تنظيم «حماس»، لم يختلف كثيرا فى أنقرة عنه فى نيويورك (هل من الضرورى الإشارة إلى أن بعض المدعوين كضيوف شرف على هذا المؤتمر، من لبنان، لم يكن لدعوتهم من مبرر إلا العداء للنظام السورى، وقد كانوا إلى ما قبل وقت قصير من أصدقائه المقربين ومن «ناصحيه» والمتبرعين بالدعوة له فى بيئاتهم الطائفية.. وعلى حساب فلسطين قضية وشعبا؟).

 

وإذا كان أردوغان قد أراد الاستقواء بشركائه فى الشعار الإسلامى من المسئولين العرب فإن أبرز هؤلاء قد افترضوا أنهم سيفيدون من اللقاء معه، وإلقاء الخطب الحماسية فى مؤتمر حزبه، بما يستدرج المزيد من الرضا الأمريكى، واستطرادا من دعم المال العربى.

 

فتغليب الإسلام السياسى على الهويات الوطنية ــ العربية هو واحد من الأهداف التى تحظى بدعم أمريكى بل غربى، خصوصا إذا ما اتخذ من الإسلام التركى نموذجا.. وهو الإسلام الذى لا يرى فى عضوية الحلف الأطلسى ما يحرجه، فى حين أن هذا الإسلام ذاته ــ وبرغم غلبة الغرض السياسى على الدين فيه لم ييسر لتركيا أمر الدخول إلى السوق الأوروبية المشتركة واستطرادا إلى نعيم الاتحاد الأوروبى.

 

كذلك فإن هذا الإسلام السياسى قد اضطر إلى ابتلاع تهديداته لإسرائيل فى أعقاب ضربها باخرة المساعدات لأهالى غزة المحاصرة، وتراجع عن تلويحه بمقاطعتها، فى حين لم تتأثر العلاقات العسكرية بين الدولتين غربيتى المقاصد والمصالح وإن كانتا جغرافيا فى الشرق، واحدة أصيلة فيه والثانية وافدة كقوة احتلال.

 

●●●

 

هل من الضرورى الإشارة إلى أن مصر التى فتح «الميدان» أمامها أبواب العودة للعب دورها الذى لا غنى عنه فى محيطها، العربى أساسا، والأفريقى ضمنا، وبالتالى الدولى، هى المؤهلة لان تكون فى موقع القيادة، وإن كانت أوضاعها الداخلية واضطراب القرار فيها يمنعها من ممارسة هذا الدور؟

 

ومتى قصدت القاهرة للعب هذا الدور بالزخم الذى أمدها به «الميدان»، فلسوف تتأكد إن من تحاول الوصول إليهم عن طريق واشنطن سيندفعون فى اتجاهها لأنها تملك مفاتيح الأمان لأوضاعهم المجافية لمنطق العصر، وأولها وأخطرها: الهوية العربية، قبل الحديث عن حقوق شعوبها عليها فى الداخل.

 

ولا يكفى توجيه اللعنات ضد النظام السورى والمطالبة بإسقاطه كبطاقة انتساب إلى عالم الثورة التى بشر بها الميدان، طريقا إلى استعادة الهوية ومعها الدور القيادى الذى فاتحته فلسطين، مع الوعى أن التقدم فيه سيصطدم بإسرائيل حتما، وبالتأكيد فليس اللقاء المرتقب مع شيمون بيريز هو المدخل إلى هذا الدور التاريخى الجليل.

 

 

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved