ما بعد حادث التدافع

عبد الله السناوي
عبد الله السناوي

آخر تحديث: السبت 3 أكتوبر 2015 - 8:15 ص بتوقيت القاهرة

من واجب أية دولة تحترم حياة مواطنيها أن تنهض بمسئوليتها بلا إبطاء.
فى حادث التدافع بمنى سقط مئات الضحايا والمفقودين والمصابين المصريين دون أن يرتفع الأداء العام إلى مستوى الفاجعة الإنسانية.
لم يطلب أحد تحقيقا شفافا ونزيها فى الأسباب والملابسات التى أحاطت بالحادث المروع ولا حاول وضع الرأى العام فى صورة المعلومات الحقيقية.
قبل إجلاء أية حقيقة تبارى كبار المسئولين فى إرسال برقيات التعازى رغم أن الضحايا أغلبهم مصريون وإيرانيون ولا يوجد سعودى واحد فيمن سقطوا بهذا اليوم الأليم.
فيما كان يجب أن تعزى السعودية مصر عزت مصر السعودية.
فى أية حوادث مشابهة تأخذ الدول التى تحترم مواطنيها كل الإجراءات اللازمة لإجلاء الحقيقة وضمان حقوق ضحاياها وأن تحتفظ فى الوقت نفسه بكبريائها فى لحظة حزن.
عندما وقع حادث الواحات دعت المكسيك رسميا لإجراء تحقيق نزيه وشفاف فى ملابسات سقوط ثمانية من سياحها بنيران من الجو.
لم تفلت العبارات الدبلوماسية عن طبيعتها رغم حدتها.
لا يعنى طلب إجلاء الحقيقة وحساب المخطئين فتح معارك مجانية مع الدول الأخرى.
فى حادثتى «الواحات» و«منى» لم يكن هناك شىء متعمدا.
رغم ذلك فهناك إهمال وتقصير يستدعى الحساب العسير والمراجعة الكاملة.
المكسيك لم تتهاون فى حقوق ضحاياها بالواحات بينما لم تبد مصر التصميم نفسه فى حقوق الذين سقطوا فى منى.
طوال زيارة وزيرة الخارجية المكسيكية إلى القاهرة بعد حادث الواحات بأيام لم تضبطها كاميرا واحدة تبتسم، بدت متجهمة تماما فى كل لقاءاتها الرسمية، فالحدث جلل والرأى العام فى بلادها يتابع.
ضبط التصرفات من احترام مشاعر المواطنين.
لم يكن المسئولون المصريون على ذات درجة الشعور بالمسئولية وقد تراوحت تصريحاتهم بين نزعتى التهوين المفرط والتبرير الفادح.
فور وقوع الحادث والعالم مشدود إلى مشاهده الدامية يسأل عن الأسباب والملابسات سارعت بعثة الحج المصرية دون أية قاعدة معلومات حقيقية إلى التهوين من أرقام ضحاياها فهم خمسة على أقصى تقدير.
من يوم لآخر ارتفعت الأرقام حتى وصلت رسميا إلى (١٢٤) ضحية و(٧٩) مفقودا هم عمليا فى عداد الضحايا.
نزعة التهوين قبل استقصاء الحقيقة انطوت على قدر غير قليل من عدم تحمل المسئولية وشىء من الاستهتار بمشاعر الأسر القلقة على مصائر ذويهم.
لوقت طويل نسبيا بدت الحكومة كأنها فى إجازة من أية مسئولية وغابت أية خلية أزمة قادرة على التصرف بكفاءة.
وعندما بدأت فى التحرك لم يكن الأداء مقنعا.
أقل بكثير مما هو مطلوب ولائق.
التهوين بذاته بدا مقصودا لأهداف سياسية أقرب إلى السذاجات.
فأهدافه لا تخفى فى نفى أية مسئولية سعودية عما جرى من دهس لأجساد الحجيج.
التهوين ناقض بشاعة الصور.
هناك من تصور أنه بمثل هذا التهوين المفرط يدعم موقف الحليف السعودى فى مواجهة الانتقادات الإيرانية المتصاعدة.
وكالعادة عندما يغيب المنطق المتماسك فإن بعض الكلام أضر بأكثر مما أفاد.
لإيران كامل الحق فى أن تغضب فقد سقط من مواطنيها بحادث التدافع (٤٦٤) ضحية.
إذا لم تغضب فهى دولة غير جديرة بأى احترام فى عيون شعبها ولا فى عين أحد اخر بالعالم.
قضية التوظيف السياسى للحادث مسألة أخرى.
هناك فارق بين الحق فى الغضب وتوظيفه سياسيا.
اعتراضك على الثانى لا يعنى سحب الحق من صاحبه.
لم تكن إيران وحدها التى انتقدت تدهور كفاءة الإشراف السعودى على مناسك الحج فقد شاركتها تركيا الانتقاد نفسه الذى تردد صداه فى العالم الإسلامى.
التدويل مستحيل عمليا لكن فكرته طرحت فى المساجلات الحادة بين الرياض وطهران على خلفية المناكفات الاستراتيجية بين البلدين فى أزمات الإقليم.
بيقين هناك تقصير فادح فى حادث التدافع بمنى وقبله حادث الرافعة بالحرم المكى واحتراق فندق يقطنه حجيج.
تقصير الحرم المكى استدعى دفع تعويضات كبيرة للضحايا والمصابين وتقصير منى أفضى إلى إقالة مسئولين سعوديين كبار عن تنظيم الحج واعتذار لإيران تخفيضا لمستوى التوتر السياسى بين البلدين.
فى التعويضات اعتراف بالتقصير وفى الإقالات اعتراف آخر.
فى الحادثتين تعهدت السعودية بالتحقيق، ومن حق مصر أن تتابعها بجدية شأن أية دولة أخرى فى العالم تحترم حقوق ضحاياها ومصابيها.
أما الاعتذار فهو إقرار دبلوماسى بالمسئولية السياسية.
أى كلام آخر لا يستحق الالتفات إليه ولا أية نظرة احترام.
المثير أن السلطات السعودية امتنعت حتى الآن عن تقديم اعتذار مماثل عن سقوط مئات الضحايا والمصابين المصريين ولا فكرت فى تأجيل احتفالات سفارتها بالقاهرة باليوم الوطنى الخامس والثمانين احتراما لمشاعر الحزن.
قبل أن نلوم الأشقاء السعوديين علينا أن ننظر فى المرآة.
هناك فارق جوهرى بين الالتزام بتوطيد العلاقات بين البلدين والتطوع بأدوار لا تليق ببلد كبير فى حجم مصر.
الالتزام يستند على قاعدة المصالح العليا المشتركة.
من الإنصاف الاعتراف بالدور السعودى الجوهرى فى دعم تحولات (٣٠) يونيو وتوفير ظهير مالى ودبلوماسى وإقليمى فى وقت حرج.
ومن الضرورى الإقرار بأن للسعودية والخليج مصالح استراتيجية مؤكدة فى مصر وأنها تريد أن ترى أكبر دولة عربية واقفة على قدميها لتوازن الدور الإيرانى.
المصالح الاستراتيجية قبل غيرها تصوغ طبيعة العلاقات.
غير أن الالتزام بدعمها لا يعنى تفريطا فى الدور المصرى ولا حرية حركته ولا كبرياءه الذى يتعين التمسك به.
بعض الكلام الرسمى مهين ويتجاوز مهام أصحابه، كأن يقال: «لن نسمح لأية دولة أن تبتز السعودية» أو أن «نقدها جحود».
إذا كان الكلام ينصرف إلى إيران فللسعودية علاقات دبلوماسية معها لا تتوفر لمصر رغم أن مصلحتها تقتضى الانفتاح على الإقليم بكل حقائقه.
ولا يعنى الانفتاح تخليا عن الخليج فمصر محام مؤتمن عن قضاياه.
الأكثر إثارة فى القصة كلها أن الطرف الذى انتقد يكاد يحصل على الترضيات التى طلبها والطرف الذى برر بالكاد بدأ يدرك حجم أزمته.
الكلام كله يمس وترا حساسا فى العلاقات المصرية السعودية.
هناك أزمات مكتومة بأثر حساسيات سعودية زائدة تكبل أية أدوار مصرية فى الإقليم.
لا الحديث مع إيران ممكن ولا إطلاق مبادرات فى الملفين السورى واليمنى متاحا.
ما يوطد العلاقات المصرية السعودية المصارحة لا دفن الرءوس فى الرمال.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved