توابع زلزال الانتخابات الإيرانية

فهمي هويدي
فهمي هويدي

آخر تحديث: الثلاثاء 3 نوفمبر 2009 - 10:00 ص بتوقيت القاهرة

 ذهبت إلى طهران لكى أرى إيران بعد زلزال الانتخابات الرئاسية الأخيرة، وفوجئت بأن الأرض مازالت تهتز هناك، وأنهم لم يخرجوا بعد من أجواء الصدمة.
(١)

ما من مسئول التقيته أو مجلسا شهدته إلا وكانت استعادة وقائع ما جرى قبل خمسة أشهر من طقوس اللقاء. الوحيد الذى قال إنه طوى الصفحة ولم يعد يلتفت إلى الماضى كان الدكتور أحمدى نجاد ــ الرئيس الفائز ــ وهو ما عبر عنه صراحة فى الحوار الذى أجريته معه ونشر يوم الثلاثاء الماضى.

وزير الخارجية منوشهر متكى ذهب بعيدا، وحدثنى عن التوترات والتجاوزات التى شهدتها إيران منذ قامت الثورة قبل ثلاثين عاما (قال إنها خلال السنوات الأولى تعرضت لـ16 ألف عملية إرهابية) الدكتور على ولايتى أحد مستشارى المرشد ووزير الخارجية الأسبق استعرض فى حديثه معى مجمل التحركات التى لاحت فى الساحة الإيرانية منذ عام 1999،

وكيف أن بعض العناصر المعارضة لولاية الفقيه احتشدت آنذاك، حين صدر قرار بإغلاق صحيفة «سلام» التى كانت ناطقة باسمهم، وحاولت أن تنزل إلى الشارع لولا أن حرس الثورة أوقفهم. وقال إن الذين حرضوا على النزول إلى الشارع آنذاك ظهروا فى الآونة الأخيرة، وألقى القبض على بعضهم بعد انتخابات شهر يونيو الماضى.

أما السيد على لاريجانى رئيس مجلس الشورى فقد اكتفى فى الإحالة إلى الماضى بالإشارة إلى أن اختلاف المواقف واشتباكها كان من بين السمات التى لازمت الانتخابات الرئاسية والبرلمانية طوال سنوات الثورة، ولكن الذى حدث هذه المرة أن الإعلام والتحريض الغربى لعبا دورا هائلا ومفاجئا فى تشويه الصورة والمبالغة فى الأحداث التى وقعت، إلى حد الكذب والاختلاق. حتى ادعوا مثلا أن الحكومة الإيرانية استعانت بأعداد كبيرة من عناصر حماس وحزب الله للتصدى للمظاهرات!

الآخرون الذين لقيتهم كانوا يعيشون الأجواء ذاتها بدرجة أو أخرى. وذلك إن دل على شىء فإنما يدل على أن الوقائع التى شهدتها إيران فى أعقاب انتخابات شهر يونيو الماضى، مازالت محفورة فى عمق الذاكرة الجمعية، وأنه حتى إذا قيل إن لتلك الأحداث سوابق فيما جرى من انتخابات، فالقدر المؤكد أنها لم تكن بنفس الدرجة من القوة، وأن نتائجها لم تعش طويلا، الأمر الذى يستدعى السؤال: لماذا؟

(٢)
صراع الأجيال يكمن فى خلفية ما جرى. هذه إحدى النتائج التى خلصت إليها أثناء الزيارة. صحيح أن الحضور القوى للإمام الخمينى خلال السنوات العشر الأولى التى أعقبت الثورة كان سببا جوهريا لضبط الخلافات وتذويبها، إلا أن الأمر اختلف بعد رحيله فى عام 89.

إذ إنه منذ ذلك الحين وحتى سنة 2004 كان التنافس على المناصب القيادية قائما بين عناصر الجيل الأول للثورة. فحين توفى الإمام الخمينى كان السيد على خامنئى هو رئيس الجمهورية، فى حين كان الشيخ هاشمى رفسنجانى رئيسا لمجلس الشورى.

وحين أصبح اللسيد خامنئى مرشدا وقائدا انتخب الشيخ رفسنجانى رئيسا للجمهورية، وكان الشيخ مهدى كروبى رئيسا لمجلس الشورى فى ولايته الأولى، والشيخ ناطق نورى رئيسا لمجلس الشورى فى ولايته الثانية.

وبعد ذك انتخب السيد محمد خاتمى رئيسا للجمهورية لمدتين استمرتا حتى سنة 2005، التى كانت بداية دخول جيل الصف الثانى حلبة المنافسة. إذ ترشح الدكتور أحمدى نجاد فى مواجهة الشيخ هاشمى رفسنجانى، الذى اعتمد على رصيده كأحد مؤسسى الجمهورية الإسلامية، ولكنه خسر الانتخابات.

الأمر الذى لم يتوقعه وأثار غضبه ودفعه الغضب إلى الادعاء بأن الانتخابات تم تزويرها. رغم أنها أجريت فى ظل حكومة السيد محمد خاتمى الإصلاحى القريب منه.

قال لى أحدهم إن القيادات التى اصطفت ضد أحمدى نجاد هذه المرة كانت كلها من ذلك الجيل الأول (رفسنجانى ــ كروبى ــ خاتمى ــ مير موسوى ــ محتشمى ــ رضائى». ولأنهم من المؤسسين، فلم يتصوروا أن تكون الولاية الثانية من نصيب «ابن الحداد» أحمدى نجاد. وحين حاز الرجل أغلبية الأصوات فإن ذلك كان أحد الأسباب التى أثارت غضبهم واحتجاجهم، ودفعهم إلى العودة لإطلاق تهمة التزوير والتلاعب بالأصوات.

فجوة الأجيال ليست حاصلة فقط بين قيادات الصفين الأول والثانى، ولكنها حاصلة أيضا بين السلطة كلها من ناحية، وبين الأجيال الجديدة من الشباب الذين يمثلون الآن 70٪ من سكان إيران، (أكثر من 70 مليون نسمة)، من ناحية أخرى. فقد سمعت من قال إن الفقهاء الذين يديرون البلد لم يوجهوا عناية كافية إلى الأجيال الجديدة التى ظهرت فى المجتمع، محملة بأشواق جديدة، فى عالم تكفلت ثورة الاتصال باختراق كل آفاقه وشرائحه.

ويبدو أن هذا الجيل أصبح منفصلا عن ثقافة الطبقة السياسية فى الجمهورية الإسلامية، حتى إن دراسة أجريت حول التزام الشباب بأداء الصلاة، وتبين أن 83٪ منهم غير منتظمين فى أدائها، وأن 63٪ لا يعرفون كيف تؤدى الصلاة. وتلك هى أرقام سمعتها من الناشط فى الحركة الإصلاحية، الزميل الصحفى ما شاء الله شمس الواعظين. وهى معلومات إذا صحت فإنها تفسر جانبا مهما من حالة الغضب التى عبر عنها أولئك الشبان، فى أجواء التوتر التى أعقبت الانتخابات.
(٣)
أكثر ما يؤلم الجميع فى طهران أن صورة الجمهورية الإسلامية اهتزت. وكذلك صورة المرشد. فالاثنان أحيطا طوال الثلاثين سنة الماضية بهالة من الاحترام والتقدير كان مسلما بها طوال الوقت. لكن ما جرى عقب إعلان نتائج الانتخابات كان خصما من تلك الهالة. ولعبت وسائل الإعلام دورا مؤثرا فى رفع نسبة الخصم، بحيث بدت الجمهورية الإسلامية منقسمة ومتناحرة، وصور المرشد بحسبانه طرفا فى الخصومة، منحازا إلى المعسكر الذى نسب إليه التلاعب بالأصوات وتزوير النتائج.

وذلك كله لم يخطر على بال أحد يوما ما. لذلك فإن الغيورين يستشعرون مرارة شديدة وهم يتحدثون فى هذا الجانب. حتى إن بعض مؤيدى المرشح المعارض مير حسين موسوى تخلوا عنه ووجهوا إليه النقد، لأنه أسهم بمواقفه فى دفع الأمور وإيصالها إلى تلك النتيجة. وهذا ما سمعته من سفير سابق مثل بلاده فى مصر يوما ما.

أكثر من مسئول قالوا لى إن فريق موسوى قرر منذ اللحظة الأولى أنه إذا لم يفز على «أحمدى نجاد» فذلك يعنى بالضرورة أن تزويرا قد حدث. حتى إنهم شكلوا منذ صبيحة يوم الانتخابات «الجمعة 12 يونيو» لجنة لصيانة الأصوات، وكان مستغربا أن الرجل أعلن فوزه بعد خمس ساعات فقط مند بدء الفرز.

وكان ذلك صحيحا فى طهران فقط، لأنه حصل على مليونين و200 ألف صوت، فى حين أن أحمدى نجاد صوت لصالحه مليون و800 ألف، ولكنه لم يكن صحيحا على مستوى الجمهورية. لأن أصوات الأقاليم قلبت المعادلة ورجحت كفة موسوى.

لقد خرج البعض فى شمال طهران صائحين «أين أصواتنا» وكانوا محقين فى تساؤلهم، لكن الهرج الذى ساد والتأكيد على فكرة التزوير عبر أبواق الإعلام عالية الصوت، لم يسمحا بشرح الموقف للفئات الغاضبة بما يقنعها بأن أغلب أصوات الأقاليم ذهبت لأحمدى نجاد.

زاد الطين بلة أن موسوى رفع سقف التحدى وطلب إلغاء الانتخابات بالكامل، ورفض كل عروض الفرز العشوائى لأى عينة تمثل عشرة بالمائة من الصناديق فى أى منطقة، كما رفض الاحتكام إلى أى مؤسسة فى الدولة، بما فى ذلك مجلس الخبراء. وأساء إليه كثيرا أن من بين الذين أيدوه فى ذلك وشجعوه على مواصلة التصعيد يصنفون ضمن خصوم الثورة، من أنصار الشاه وجماعة مجاهدى خلق إضافة إلى المسئولين فى العواصم الغربية وإسرائيل،

هذا التصعيد الذى كان النزول إلى الشارع من بين أدواته أدى إلى نتيجتين. الأولى أن المرشد استشعر أن الإصرار على إلغاء النتائج يعنى التسليم بالتزوير فى 45 ألف لجنة، ومن ثم التشكيك فى نزاهة النظام الذى يقوده، فأعلن تأييد النتائج الرسمية، وطالب الجميع بالالتزام بالقانون واحترام مؤسسات الدولة.

النتيجة الثانية أن مير موسوى برفضه قرار مجلس الخبراء وإصراره على عدم الاعتراف به، خسر فرصة الترشح لانتخابات الرئاسة القادمة، لأن ذلك المجلس هو الذى يجيز المرشحين. وأغلب الذين لقيتهم على الأقل يجمعون على أن الرجل الذى يدرس بالجامعة ويرأس مجمع الفنون ويتمتع بعضوية عدد من المؤسسات المهمة، لو أنه قبل بالهزيمة، وأعد عدته لخوض الانتخابات القادمة التى تحل بعد 4 سنوات، لضمن الفوز برئاسة الجمهورية بعد أحمدى نجاد.

(٤)
بقيت أربع ملاحظات يلمسها زائر طهران هذه الأيام هى:

أن السيد على خامنئى مرشد الجمهورية يبذل فى الوقت الراهن جهدا حثيثا لرأب الصدع وإعادة لحمة الصف تجلى ذلك فى إعلانه ردا على سؤال وجه إليه «ربما كان مرتبا!» أن قادة المعارضة.

الوطنى ليست لهم اتصالات خارجية. وبعد ذلك مباشرة أعلن أن الاعترافات التى أدلى بها بعض المعارضين أمام المحكمة يعتد بها فقط فيما يخصهم، وينبغى ألا تؤثر على مواقف أشخاص آخرين.

وأراد بذلك أن يوقف اللغط الذى أثارته شهادة السيد محمد أبطحى وتعرض فيها للرئيس السابق السيد محمد خاتمى، الذى كان أبطحى أحد مساعديه. فى الوقت ذاته فإن اتصالات تجرى الآن لجمع الأطراف المشتبكة يقوم بها عدد من القيادات المحايدة والمحترمة، أبرزهم آية الله مهدوى كنى، وهناك مبادرات أخرى فى ذات الاتجاه يقوم بها بعض أعضاء مجلس الشورى.

الملاحظة الثانية أن تجربة الانتخابات كشفت عن مدى القوة التى يتمتع بها المجتمع الإيرانى والحركة الاحتجاجية فيه. ذلك أن صوت المعارضة لا يزال حاضرا ومسموعا فى وسائل الإعلام وفى بعض مؤسسات الدولة. كما أن الحركة الاحتجاجية مازالت تلملم صفوفها فى الداخل، وهى تلقى تأييدا واضحا بين المثقفين وقطاعات الشباب وغيرهم من دعاة التغيير فى البلد.

إن ثمة لغطا قويا يتردد حول تنامى ظاهرة الفساد المالى، خصوصا تربح أبناء القيادات واستفادتهم من مواقع آبائهم.

وهؤلاء يسمونهم «أغا زاده» أو أولاد الأكابر. والشائعات فى هذا الصدد تلاحق بعض أبناء آيات الله الذين أصبحوا من الأثرياء، والوحيد الذى لم تمسه الشائعات حتى الآن هو السيد على خامنئى الذى اشترط على ابنيه وأصهاره ألا يشترك أحد منهم فى أى نشاط تجارى أو خاص.

إن التوترات التى حدثت بعد الانتخابات، ونذر الفوضى التى لاحت، أثارت قلق البعض على النظام الإسلامى، فلم تؤد فقط إلى انصرافهم عن تأييد السيد موسوى خوفا على مصير النظام، وإنما استنفرت أيضا «حرس الثورة» الذى ازداد نفوذه بشكل لافت للأنظار ،مما أدى إلى زيادة الإجراءات الأمنية،

التى كان من بينها سحب جوازات سفر بعض الإصلاحيين ومنعهم من مغادرة البلاد، وهو ما دفع عددا من المثقفين إلى التحذير من احتمالات «عسكرة النظام» بدعوى دفع المخاطر التى تتهدده.
إن إزالة آثار الزلزال لم تتم بعد، لأن الجرح بدا أكبر من الجريح.


هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved