«گف رابعة» ومستقبل الوطن

أحمد عبدربه
أحمد عبدربه

آخر تحديث: الأحد 3 نوفمبر 2013 - 7:00 ص بتوقيت القاهرة

فى تاريخ الشعوب والأمم لحظات فارقة وأحداث تتجاوز مدتها الزمنية الطبيعية لترسخ فى تاريخ الشعوب وتغير من مصائر الأمم بالسلب أو بالإيجاب. وفى تقديرى ومع ايمانى العميق بحجم الجدل والانقسام حول الموضوع الذى أثيره اليوم، إلا أن السكوت عنه أكثر من ذلك قد يكون مضرا بمستقبل ومصير هذا الوطن الذى يتمزق على الأرض فى الشوارع والحوارى وخلف الجدران والأبواب المغلقة بينما تتجمل السلطة والنخب وتتظاهر بأن الأمور على ما يرام ويعلم الجميع أنها ليست كذلك.

 

إن ما حدث فى ميدان رابعة العدوية يوم الرابع عشر من أغسطس الماضى لهو حدث جلل سيؤثر على مجريات الأمور فى مصر خلال العقود الخمسة القادمة على الأقل بلا مبالغة، فالحدث كرس ضمن ما كرس شرعنة للدم وانقساما فى المجتمع وتمزقا للبشر وتقديسا للدولة والجماعات على حساب البشر ولأن «رابعة» ودلالتها لن تمحى من الذاكرة الوطنية بسهولة ولأن حوادث متتالية خلال الأسبوعين الماضيين على المستويين العام والشخصى أعادوا الجدل الى السياق العام بخصوص موقف الدولة والمجتمع والتيارات السياسية من هؤلاء المنبوذين الذين يرفعون شعار رابعة ويتعاطفون معها، فأوضح فى السطور القليلة القادمة تحليلا لما وقع فى رابعة وما بعدها لا للمزايدة على هذا التيار أو ذاك ولا لتسجيل مواقف سياسية أو المتاجرة بأخرى ولكن لإقرار مسئوليات لأطراف ولاعبين سياسيين أمام التاريخ والأجيال القادمة لحدث مزق الوطن وسيظل كذلك لعقود:

• رابعة والنظام: باختصار فالنظام القائم هو من قتل مواطنيه المعتصمين فى رابعة، قتل عشوائى وبدم بارد، أرادت الدولة العودة الى التأكيد على أنها وحدها من تمتلك بل وتحتكر استخدام العنف، ومارسته بقسوة على مواطنيها لأنها رأت أن اللحظة الهيسترية التى أعقبت التفويض تستدعى أن تقوم بشرعنة للدم المسال لأغراض قومية من جهة وأن تكسر الفوضى فى الشارع عبر التضحية أولئك الذين لن يبكيهم أحد لأنهم ليسوا من مواطنى الدرجة الأولى الذين ان خدش لهم أحد قامت الدنيا ولا تقعد من ناحية أخرى، بحثت الدولة عن مبررات الفض فتورطت فى مبالغات وصلت الى حد اتهام الاعتصام بحمل أسلحة ثقيلة ونسبها الى تقارير أحد المنظمات الحقوقية على لسان وزير الخارجية المصرى وهو ما ثبت كذبه لاحقا واضطر الوزير للاعتذار. لم تكتف الدولة بالقتل العشوائى ولكنها لم تبذل أى جهد لفتح تحقيقات جدية ومحايدة بشأن ما وقع لأنها قطعا مدانة.

• رابعة والجماعة: تتحمل الجماعة عبر قادتها مسئولية أخلاقية وسياسية عما وقع فالجماعة ومنذ ٣ يوليو تبحث عن المظلومية التى ستمكنها من الحفاظ على تماسكها وتنظيمها حتى لو على حساب البشر، وهو ما كان، تعبئة للبشر عبر رسائل وخطب خزعبلية خلطت الأوراق وروجت للأكاذيب وداعبت الحالمين بالجنة وبالاستشهاد، فجبريل نزل لرابعة والرئيس مرسى أم الأنبياء والمرسلين، فأسرت الخطب البشر والأتباع وراحوا يستسهلوا الشهادة فى سبيل تنظيم فاشل وقيادات تتمتع بغباء سياسى وانتهازية انسانية منقطعة النظير، فوقعت المظلومية وراحت أرواح البشر فداء لاتفاقا ضمنيا غير معلنا بين الدولة الباحثة عن احتكار العنف لإعادة هيبتها الضائعة وبين الجماعة الباحثة عن الدم وتقديم الشهداء فداء للتنظيم.

• رابعة والتيارات المدنية والليبرالية: بئس التيارات المدنية والليبرالية تلك التى تسكت بل وتبرر أحيانا للقتل الجماعى العشوائى بدعوى استعادة هيبة الدولة، أو تغض الطرف استجابة للأمر الواقع وتوازناته، هؤلاء لم يتعلموا من التاريخ شيئا ولم يثبتوا على مبادئ وشعارات سبق وتم رفعها حينما خدش هذا أو قتل ذاك فى عهد مرسى، فالقتل أيام مرسى كان جريمة وفاشية، أما القتل فى هذه الأيام فهو مبرر طالما انه طال مواطنى الدرجة الثانية ممن لا يبكى لهم ولا تقام لهم المؤتمرات والتأبينات والبكائيات بدعوى حقوق الانسان والمواطنة والحريات.. الخ. صحيح كان هناك استثناءات داخل هذه التيارات، لكنها أقلية تعرضت لنبذ ومزايدات رهيبة من تياراتها بدعوى الانضمام للطابور الخامس أو لعب دور الخلايا النائمة...الخ.

• رابعة والمنظمات الحقوقية: الغالبية العظمى من المنظمات الحقوقية سكتت عن ما حدث وكأن ما وقع ليس له علاقة بحقوق المواطن وأمنه، بل أن إحداها خرجت ببيان عجيب توضح أن فض اعتصام رابعة تم وفقا للمعايير الدولية دون أن توضح ماهية هذه المعايير ولا كيف لها أن تصل إلى تلك النتيجة؟ وهو ما يعيد فتح الملف الحقوقى فى مصر للتفرقة بين الحقوقيين الحقيقيين وبين الدولاتيون الجدد المتخفين فى ملابس وشعارات حقوقية ليعطوا الدولة ونظامها صك الغفران الحقوقى رغم كل ما حدث هكذا بلا تحقيق ولا حتى تدقيق.

• رابعة والإعلام: أثبتت حادثة رابعة أن الإعلام من المستحيل أن يكون محايدا، وأن أقصى ما نطمح إليه أن يكون محترفا وحتى تلك الأخيرة غابت عن معظم قنواتنا الإعلامية فى تغطية أحداث فض الاعتصام فى رابعة، وكانت قناتان على الأقل خلال عملية فض الاعتصام تعلن مصادرة كاميراتها وبالتالى لم نرى شيئا من عملية الفض على الهواء كما وعدت الداخلية، وانتهى الأمر بأننا مضطرون أن ندافع عن الدولة وعن عملية الفض الاحترافى دون أن نرى أى دليل على ذلك إلا تصديق نية الدولة!

• رابعة والمجتمع: باختصار رابعة شوهت المجتمع وقسمته بين فريقين، الأول يرى أن رابعة هى مرتع الإرهابيين والمنبوذين ومواطنى الدرجة الثانية، والثانى يقدس الأرض والمكان والذكريات والرموز ففيها قضى أياما فى عالمه الخاص بعيدا عن الدولة التى يراها ظالمة، تيار أصبح يغتاظ من رؤية كف اليد الأصفر الشهير فهو يذكره بعار لا يريد أن يعترف به ويحاول التحايل على ذكراه، وبين تيار أخر يقدس الشعار ويعتبره وسيلته السلمية الوحيدة للتنفيس عن ألامه وأوجاعه.

 

إن النظام الذى قتل مواطنيه بدم بارد يتحمل مسئوليته السياسية والجنائية أمام التاريخ وهى جريمة لن تسقط بالتقادم، والجماعة التى استخدمت الاتباع كدروع بشرية لخلق المظلومية الكربلائية لحماية التنظيم لن تنجح يوما فى قيادة بلاد هى غير جديرة بحكمها لأنها غير أمينة على مواطنين لا تراهم إلا مشاريع شهداء لغايات مادية ومشاريع وهمية، والتيارات السياسية والحقوقية التى تغاضت عما وقع أو بررت لما وقع لن يكون لها مستقبل فى دولة ديموقراطية مدنية وفى مجتمع يستمد حضارته من تنمية مواطنيه لا قتلهم وسحلهم بدعاوى الحفاظ على الأمن القومى، باختصار كما رصصنا مؤشرات سقوط الإخوان وحذرناهم قبل أن يفوت الأوان، وفات الأخير دون أن ينتبهوا، فإن تحليلا متواضعا لمؤشرات الحاضر تؤكد أن يوما ما (قريبا أو بعيدا لا أستطيع التحديد) سيسقط هذا النظام طالما أنه يرفض الاعتراف بجرائمه والاعتذار عنها وجبرها ضمن خطوة أشمل للمصالحة والحوار والتسامح، وهؤلاء الذين يقفون فى صفه الآن دون أن ينصحوه يتحملون قدرا من المسئولية الأخلاقية على الأقل ولن يختلف مصيرهم كثيرا عن مصيره، ونحن جميعا فى انتظار تيار جديد قادر على الاتساق مع ذاته وتقديم المشروع الذى يعيد هيكلة علاقات السلطة بالمجتمع ويسعى نحو بناء نظام ديمقراطى مدنى حقيقى لا مصطنعا، يداوى جراح أبناء الوطن ويدافع عن حقوق كل الضحايا من أبنائه غير مفرق بين شهيد سقط وهو يحتفل أو يصلى فى كنيسته أو آخر شرطيا أو جنديا وقف ليحمى الناس ويحرسهم عن حق فتعرض لغدر الارهابيين أو ثالث وقف مدافعا عن حلمه أو حقه أو شرعيته فقضى نحبه غدرا وظلما، هؤلاء جميعا مصريون وينتظرون نخبة مختلفة غير ملوثة بالدم والعار لتأتى بحقوقهم وتحاكم قاتليهم وبدون ذلك لا يمكن أن نبنى وطننا.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved