بين الثورة والحراك: التجربة الجزائرية

عبد الله السناوي
عبد الله السناوي

آخر تحديث: الأحد 3 نوفمبر 2019 - 10:50 م بتوقيت القاهرة

لم يكن أحد يعرف اسم قائد الثورة، التى توشك أن تعلن فى الجزائر وتصنع مصيرها بدماء أبنائها.
«دم الثوار تعرفه فرنسا.. ونعرف أنه نور وحق
فصحت نحن مختلفون دارا.. ولكن كلنا فى الهم شرق».
كانت تلك مقدمة غنائية بصوت «محمد عبدالوهاب» من كلمات أمير الشعراء «أحمد شوقى» لأول خطاب يلقيه «أحمد بن بيللا» عبر آثير «صوت العرب» من القاهرة يوم (2) يوليو (1954) قبل شهور قليلة من الرصاصة الأولى.
بدت نهاية الخطاب عميقة وملهمة: «كان الفرنسيون يقولون فى أعماقهم دون صوت أيام بطش الاحتلال النازى فرنسا للفرنسيين.. فليردد كل الجزائريين، ولو بصوت أخرس صباح مساء، كلما رأوا فرنسيا جنديا أو مستوطنا الجزائر للجزائريين».
فى حوارات القاهرة أبلغ «بن بيللا» السلطات المصرية أن الرصاصة الأولى سوف تطلق فى الساعة الواحدة من صباح (٣٠) أكتوبر (١٩٥٤).
بدأت «صوت العرب» استعدادها لهذا اليوم التاريخى بتكتم بالغ طلبه وألح عليه «جمال عبدالناصر» على ما جاء فى مذكرات خطية لمؤسسها «أحمد سعيد» لم يتسن أن تنشر حتى الآن.
أعدت مواد إعلامية ووثائقية وتعبوية وأنتجت أناشيد ومسلسلات جديدة ترفع مستوى الوعى العام بحقائق التاريخ وهوية الجزائر، وحقها فى طلب الاستقلال.
كان سر الأسرار جميعها نص بيان مكتوب باللغتين العربية والفرنسية لإذاعتهما فور الحدث الكبير.
كانت توجيهات «عبدالناصر» إلى «فتحى الديب»، الذى كان يتولى من موقعه فى رئاسة الجمهورية متابعة الملف الجزائرى بأدق تفاصيله: «عندما يثبت تنظيم الكفاح المسلح ومن يومه الأول قدرته على العمل الثورى الشامل فإن مصر سوف تلقى بثقلها كاملا عارفة بمسئوليتها ومتقبلة لتضحياتها».
لكنه بدا متحفظا على الحماس الزائد، الذى خطط لنحو ثمانين عملية فى اليوم الأول: «يكفينى ١٥ أو ١٦ عملية بامتداد الجزائر وأن تكون ذات دوى فى العاصمة حتى تلفت أسماع العالم».
عندما أزف الوقت المحدد ـ مساء السبت ٣٠ أكتوبر ـ أعلنت حالة الطوارئ فى «صوت العرب»، وألغيت الانصرافات الليلية المعتادة بعد انتهاء الإرسال.
لإخفاء السبب الحقيقى جرى التنويه أن هناك معلومات عن حشود عسكرية فرنسية تتحرك من الجزائر وتونس لإجهاض ثورة الشعب المغربى.
شاءت الظروف أن يكون متواجدا فى الإذاعة بذات الوقت زعيم حزب الاستقلال المغربى «علال الفاسى»، بما أضفى صدقية كاملة على التنويه.
جاء صباح الأحد وحل نصف النهار دون أن تكون هناك أى أخبار من الجزائر.
جرت اتصالات ومحادثات وتساؤلات: ما الذى حدث؟
كان ذلك مربكا ومقلقا فى الوقت نفسه.
القلق طال «عبدالناصر»، الذى كان يراهن على ثورة الجزائر فى تغيير معادلات المنطقة.
خامره شىء من الشك فى جدية الاستعداد، أو ربما أن التفاؤل كان أكثر من اللازم.
«نحن مجبرون» ـ كانت تلك أول إشارة تصل من «بن بيللا» مكتوبة بالفرنسية.
«قال لى فتحى الديب أخوك الكبير قلق، وبالغ القلق، وسوف اتصل به حالا لأطمئنه أن عملية أخته الحاجة اليوم بإذن الله» ــ على ما روى «أحمد سعيد».
لأسباب ميدانية تأجلت العمليات المسلحة، التى شملت أنحاء واسعة من الجزائر، إلى الأول من نوفمبر.
فى ذلك اليوم من عام (١٩٥٤) ، قبل (65) سنة بالضبط، بدأت تتوالى الأخبار من وكالة الأنباء الفرنسية عن «محاولات تخريب، تقدر خسائرها بآلاف الفرنكات».
«اندلعت الشرارة الأولى للكفاح الجزائرى، الذى اعتقد الجميع أنه أمر مستحيل، ليستمر أكثر من سبع سنوات، ناضل خلالها الجزائريون بقوة وجدية ورجولة أكسبتهم احترام الرأى العام العربى والدولى على السواء».
عندما علم «عبدالناصر» أن دوى الانفجارات أرعب قوات الاحتلال الفرنسى تأكد أن الجزائر قد استعادت استقلالها وأكدت هويتها العربية، وأن الباقى تفاصيل.
فى معركة الجزائر تأكد الدور المصرى فى عالمه العربى بلا من أو ادعاء.
القاهرة تابعت أدوارها من الرصاصة الأولى فى نوفمبر (١٩٥٤) حتى استقلت الجزائر فى يوليو (١٩٦٢) حاضرة فى قلب التخطيط السياسى والإعلامى والعسكرى شريكا كاملا فى المعركة.
كانت لشحنات السلاح المصرية، التى هربت إلى جبال الجزائر عبر البحار أو الحدود الليبية، وتدريب المقاتلين عليها، دور محورى فى حسم حرب التحرير.
كان «هوارى بومدين» نفسه أحد الذين تدربوا فى القاهرة قبل أن يجرى تهريبه إلى داخل الجزائر على متن يخت مصرى يحمل شحنات سلاح.
وقد تضمن كتاب «فتحى الديب» «عبدالناصر وثورة الجزائر» حصرا كاملا لشحنات السلاح.
قيمة هذا الكتاب فى قدر التوثيق الذى يحتويه من مستندات ومحاضر سرية وصور نادرة لا تتوافر عند غيره.
«صوت العرب من القاهرة
أيها الأخوة فى كل مكان
نزف إليكم بدء ثورة تحرير واستقلال الجزائر
إليكم بيان جبهة التحرير الوطنى.. اللجنة الثورية للوحدة والعمل
وتم توزيعه اليوم فى جميع أنحاء التراب الجزائرى».
كانت تلك أعظم دقائق إرسال لـ«صوت العرب»، وأكثرها شهرة وتميزا وخلودا تاريخيا ـ كما كتب مؤسسها باعتزاز فى مذكراته.
هكذا كانت الصورة فى القاهرة فى ذلك اليوم الاستثنائى من التاريخ العربى الحديث.
الثورة أكسبت الجزائر مكانة خاصة فى وجدان الشعوب المتطلعة للتحرر الوطنى والاستقلال، وبحجم تضحياتها استقرت فى ذاكرة الجزائريين كأعظم صفحة فى تاريخهم.
عندما يستلهم الحراك الجزائرى اليوم روح الثورة فى ذكراها فهذا تأكيد جديد على عمق إلهامها ونفى بالوقت نفسه أن يكون هناك أى صدام بين الثورة الأم والحراك الذى يطلب القطيعة الكاملة مع وجوه نظام «عبدالعزيز بوتفليقة»، أو ما يطلق عليه «حكم العصابة».
هناك من تصور أن الحراك نوع من القطيعة مع إرث الثورة الجزائرية.
هناك باليقين أخطاء فادحة ارتكبت فى التجارب التى تعاقبت على مدى الـ(65) سنة الأخيرة كلها تستحق المراجعة فى سياق ظروفها وتحدياتها، غير أن فعل الثورة نفسه يدعو لفخر كل جزائرى وعربى وإنكاره جهل بالتاريخ ومواطن القوة فيه ويسحب على المفتوح من أى أمل فى التحول إلى دولة حديثة.
استدعاء المعانى الكبرى التى ارتبطت بالثورة الجزائرية بالزحف إلى العاصمة فى ذكراها دعما لمطالب الحراك شهادة جديدة بأهمية التراكم فى صنع التاريخ وأن اصطناع الفجوات يضرب فى المستقبل والتطلع إليه.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved