قمتان كاشفتان

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الأربعاء 3 نوفمبر 2021 - 8:20 م بتوقيت القاهرة

عالم منهك. هكذا بدا لى العالم وأنا أراقب سلوك أكثرية الحاضرين فى قمتى العشرين والمناخ. رأيت تناقضا بين سلوك وأحيانا مزاج الحاضرين وبين وجودهم فى موقعين قل أن يتكرر جمالهما فى مواقع أخرى. مؤلم جدا أن يحبسك الواجب السياسى أو الدبلوماسى داخل قاعة رائعة الذوق والأناقة وغابة من المقاعد المريحة وعلى مسافة غير بعيدة منها لوحات نادرة من طبيعة خلابة وعمارة يفوح منها عبق تاريخ طويل وعميق. عشت هذه التجربة قبل عقود عديدة فى مؤتمر عقد بمدينة روما، عشتها مرة أخرى بعد سنوات غير قليلة فى مؤتمر عقد فى أسكتلندا ولكن فى موقع أكثر بهاء وروعة من جلاسكو، عقد فى إدنبره. فى الحالتين، أى فى روما أو إدنبره، لم يبدِ لى على وجوه المشاركين أنهم يمثلون عالما منهكا كالعالم الذى جاء منه المشاركون فى قمتى العشرين والمناخ.
***
بدأ الأسبوع، أسبوع قمتين من أشهر القمم الدولية، بتصريح من السيد بلينكين وزير خارجية الولايات المتحدة استخدم فيه كلمة حاسم فى وصفه للعقد القادم. عقد حاسم. احترت فى فهم قصد الوزير الذى لازم إلى حد كبير بعض مراحل صعود السيد جو بايدن، وبالمناسبة كنت احترت من قبل فى فهم القصد من تعمده تفادى الحديث عن النزاع الإسرائيلى الفلسطينى وهو وزير خارجية الدولة العظمى الأقوى تعلقا بهذا النزاع وتدخلا فيه. سمعت شرحا مستفيضا ومقنعا من أكثر من صديق أمريكى هدأ حيرتى حول تفاديه الحديث عن موضوع فلسطين ولم أسمع ما يهدئ حيرتى حول توقعه عقدا حاسما فى علاقات الدول بشكل عام وحالة العالم. مع ذلك يمكن أن نتفهم. إذ لم يحدث خلال العقود القليلة الماضية أن اجتمعت كارثتان رهيبتان، كوفيد 19 وسخونة الكوكب، تسببتا حتى الآن فى وفاة الملايين وتشريد ملايين أكثر. لم يفلت من الأذى شعب أو إقليم. بل أستطيع مشاركة زملاء عديدين فى القول بأننا رأينا بالعين المجردة وبالدقة الممكنة كيف تعامل مختلف القادة السياسيين فى غرب العالم وشرقه مع الكارثتين، كل بإمكانات مختلفة وإرادات متباينة ومجتمعات غير مؤهلة أو مستعدة. أضف إلى ذلك الاحتمالات والسيناريوهات المتسربة من وادى السيليكون وأودية أخرى فى دول متفرقة تنبئ بكوارث اجتماعية وسياسية من نوع مختلف تماما تنتج عن انتقال الناس من عالم الإنترنت العادى إلى عالم الـ «ما بعد» أو بلغة المتخصصين عالم الـ «ميتا». قليلون من السياسيين والمتخصصين انتبهوا لخطورة ما أعده لهم وللعالم صاحب وخبراء شركة فيسبوك وغيرهم فى شركات تعمل للمستقبل، هؤلاء لم يعلنوا حتى الآن اهتماما صريحا باحتمالات تدهور الكارثتين، الكوفيد 19 والمناخ، والآثار المترتبة عن اختلاطهما فى الوقت والأضرار والتكلفة بالتحول الجماهيرى الهائل والمتوقع إلى منصات الخيال المطبق والكاسح.
***
لم أتفاجأ كثيرا لغياب الرئيسين الصينى والروسى ففى غالب الأحوال صارا يقللان جدا من السفر خارج بلديهما. إلا أن الغياب جرى تفسيره تفسيرات متعددة وبعضها يستحق الاهتمام وأكثرها لا يستحق اهتماما كبيرا. قيل مثلا أن الرئيسين تعمدا عدم المشاركة لتتحمل الولايات المتحدة وحدها مسئولية عدم تنفيذ قرارات مؤتمر المناخ، وبخاصة القرارات التى سوف تصدر تحت ضغط الجماعة الأكاديمية الدولية وجماعات الشباب وقطاعات أخرى فى المجتمع الدولى مثل الأمم المتحدة ويمثلها خطاب جوتيريش والجهة المضيفة للمؤتمر ويمثلها خطاب بوريس جونسون. قيل أيضا أن المؤتمرين، قمتى العشرين والمناخ، سوف يتحولان إلى مظاهرتين هدفهما العمل على إزالة آثار مرحلة دونالد ترامب على وضع أمريكا القطب الأعظم فى العالم وبالتالى يجدر بالزعيمين الصينى والروسى الابتعاد عنهما حرصا على مكانة الدولتين وما حققتاه من إنجازات فى نفوذهما الدولى خلال مرحلة أخرى من مراحل تدهور نفوذ أمريكا. قيل كذلك أن بايدن كان يعانى من انحدار شعبيته بشكل مذهل خلال الأسابيع الأخيرة فضلا عن حلقات فى مسلسل انكشاف قصور فى كفاءة جهازه الذى رافقه لسنوات عديدة. أضف إلى كل ذلك صعود قيمة ونفوذ وشعبية تيار ترامبوى جديد يضاعف من زخم الترامبوية التى لم يفلح بايدن وأعوانه فى وقفها. قيل مثلا أنه جاء إلى المؤتمرين غير واثق من تمرير الكونجرس لخطته المالية فى شأن انعاش البنية التحتية وتحسين أحوال الطبقات غير القادرة وتعويض القطاع الخاص عن بعض خسائره، جاء أيضا قبل أن تتضح له ولحزبه نتيجة انتخابات حاكم لولاية جورجيا باعتبارها صارت تمثل مفتاح مستقبل السباق الداخلى. قيل، وأظن أنه يستحق اهتماما خاصا، قيل إن الصين ربما أدركت أن حضور الرئيس شى ومعه الرئيس بوتين المؤتمرين يسمح لأمريكا بتأكيد عزمها صيانة دورها كصائغ أعظم لقواعد العمل الدولى لأنهما لن يتمكنا من الدخول فى مواجهة مع أمريكا المحصنة شكلا، وإن ليس موضوعا، بشبكة قديمة من الحلفاء أو التحالفات، خاصة وأن القضايا المثارة فى المؤتمرين لا مصلحة كبيرة للصين أو روسيا أن تجعلها فى اللحظة الراهنة محكا أو اختبارا لتوازن النفوذ الدولى.
***
لم يعد التوتر خافيا داخل الحلف الغربى وكذلك فى العلاقات بين أمريكا وكثير من دول توصف بالصديقة لها والمعتمدة عليها. أزعم على سبيل المثال، وربما يكون للخبراء فى تدقيق الصور وترجمة لغة الجسد زعم آخر، أزعم أن اللقاء الأشهر فى الترتيب والإعداد بين الرئيسين بايدن وماكرون على هامش قمة العشرين لم يكن موفقا، أو على الأصح، لم ولن يسمح للمياه أن تعود إلى مجاريها بين الدولتين. وبالصدفة، وإن كان فى نظر آخرين تطور متوقع منذ البريكسيت، تدهورت العلاقة بين فرنسا والمملكة المتحدة حول حقوق الصيد. من ناحية أخرى أوحت الصور بأن شيئا ما مثيرا للقلق والانتباه يحدث داخل الحلف الغربى بصفة عامة وداخل الاتحاد الأوروبى بصفة خاصة. أقصد تحديدا صورا ملتقطة للمستشارة أنجيلا ميركل لا تفعل شيئا مهما. تابعتها على قدر الإمكان وتأكدت أن ألمانيا متوقفة عن لعب دور فى ظروف صعبة يمر بها الاتحاد ودول أوروبا بشكل عام ككتلة رئيسة فى الحلف الغربى. أضيف أن رئيسا لدولة عضو فى الاتحاد الأوروبى، لم يكف عن إثارة الانتباه إلى نفسه وبلاده وبلاد أخرى مرتبطة بها أو متخاصمة معها حتى أنه برحيله المفاجئ غاضبا ومتعجلا أثار انتباها أكثر. من الواضح لنا على الأقل أنه لم يحصل من حلفائه فى معسكر الغرب على ما أراد.
***
أعود إلى سيرة أمريكا. لا أظن أن مستشارى بايدن أحسنوا صنعا حين أشاروا عليه، أو سكتوا عن إدخال الدين عامدا متعمدا فى لقاءاته السياسية كما حدث فى لقائه مع بابا الفاتيكان. كثيرون انتقدوا انهمار عواطفه خلال أحاديث مطولة عن أحزانه وعائلته. أيا كانت دوافعه، وفى الغالب كانت شخصية، كان يجب أن يدرك أن الظرف دقيق للغاية، إذ إنه ينطلق من وضع ضعف داخلى وشعبية متدنية ومن حاجة شديدة إلى إظهار القوة والقدرة على التحدى وتجاوز الصعاب، وبالتأكيد ليس الحزن الطريق لإظهار القوة والمنعة.
أظهرت اللقاءات التى سبقت أو تزامنت مع انعقاد المؤتمرين أن خللا فى العلاقات بين أمريكا ودول الخليج لم يصحح. ما تزال قصة انسحاب أمريكا من أفغانستان والحديث المتكرر عن قرارات للانسحاب من الشرق الأوسط وتصرفات متناثرة فى السياسة الخارجية الأمريكية، ما تزال جميعها يثير أو يضاعف الشكوك فى النوايا الأمريكية تجاه أمن ومستقبل الخليج. لا ننكر أن قناعات كادت تثبت أو تتأكد تدعى أن السياسات الأمريكية تسببت عن قصد أو غير قصد فى حال الانفراط الراهن فى المنظومة العربية. تتدخل فى الأمر نظريات مؤامرة لم يقصر فى الإيمان بها العقل الشرق أوسطى. نقلت وكالات الأنباء أن مسئولا عربيا كبيرا كان يستمع باحترام وهدوء إلى شرح طويل تطوع بعرضه مسئول أمريكى فى نفس المستوى، وما أن انتهى المسئول من تقديم الشهادة على صدق نية الجانب الأمريكى وتفاؤله بمستقبل الخليج حتى فاجأه المسئول العربى بسؤال فى الصميم، سأله أين خطتكم؟
فى جانب آخر يشكو قادة إسرائيل من أن إدارة الرئيس بايدن تمنعهم عن اتخاذ قرار استخدام القوة المسلحة للقضاء على فرص تطور إنتاج السلاح النووى. من الواضح أن النية مبيتة لدى إدارة بايدن للتمسك بالحل الدبلوماسى والعقوبات الاقتصادية. يمكن طبعا تفهم هذه النية إذا وضعت فى سياق القرار الأمريكى الأشمل بالانسحاب من الشرق الأوسط وعدم التورط فى أى مشكلة من مشكلاته. ولعل امتناع وزير الخارجية ومعاونيه عن التصريح بمواقف أو سياسات ترتبط بإسرائيل وفلسطين مصدره نفس السياق. قرأنا أيضا أن قضايا غير قليلة العدد جرى تجميدها إلى أن يصدر التقرير الجديد عن وضع القدرات والإمكانات العسكرية الأمريكية. بمعنى آخر ما تزال الإدارة القائمة فى واشنطن تتعامل مع مجمل القضايا الدولية من منطلق وضع انتهى العمل به وبخاصة بعد أن تغيرت نوعية الأسلحة واستراتيجيات استخدامها إن دعت الضرورة. أتفهم ولكنى لا أجزم بصدق هذه الحجة. أتصور فى الوقت نفسه وجو حذر مبرر من جانب القادة العسكريين وبعض السياسيين من استعداد منظمات حقوقية رفع دعاوى اتهام للراحل كولين باول بارتكاب جرائم ضد الإنسانية.
•••
لن أجازف بالحكم على نجاح أو فشل المؤتمرين فى تحقيق أهدافهما. أعترف أن الأهداف فى الأصل كانت متواضعة وبالتالى سوف يعتمد الحكم عليها على ضوء القليل الذى سوف ينفذ من قراراتها. إنما يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار حقيقة بالغة الأهمية بالنسبة لمستقبل توازن القوة عند القمة. واقع الأمر أن الصين بغيابها أجلت اتخاذ القرار الأصعب المتعلق باللحظة التاريخية المناسبة لانتزاع حق صياغة، أو المساهمة فى صياغة، قواعد عمل التنظيم الدولى، الحق الذى احتكرته الولايات المتحدة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved