ديسك متحفى

داليا شمس
داليا شمس

آخر تحديث: السبت 3 ديسمبر 2016 - 9:35 م بتوقيت القاهرة

أعبث بأشيائى القديمة، بحثا عن أوراق وضعتها فى الخزانة منذ سنوات، فإذا بى أقع على متحف صغير وشخصى للأدوات المنسية. لم يعد معظمها مستخدما فى الحياة اليومية، فى حين كان قبل سنوات قليلة من ضروريات العصر: فيلم كاميرا لا يزال فى علبته، جهاز تسجيل صغير من أيام شرائط الكاسيت، ديسكات كمبيوتر، أقراص مدمجة، نيجاتيف، محمول نوكيا عتيق موديل التسعينيات،
«ووكمان» ماركة سونى، وماكينة لا تزال مغلفة بورقتها تشبه الآلة الحاسبة لكن لا أتذكر فيم كانت تستعمل بالضبط. هذا بخلاف الكاميرات ذات الأحجام المختلفة التى صارت تشبه معدات الخواجة كوداك شخصيا. على الرغم من أن عمر بعض هذه الأشياء لا يتجاوز العشرين سنة، فإنها بدت بالية وكأن دهرا قد مضى.. وبالفعل ينتمى جزء منها إلى تكنولوجيا القرن الفائت التى لا يعرفها سوى المخضرمين. تحولت الحجرة تدريجيا إلى بازار أو غرفة «كرار»، كما نقول بالعامية، تبين العلاقة بين السرعة والحداثة، وتؤكد أن الوقت يمر دون أن ندرى، بل وتدلل أيضا على أننا لو استمررنا بهذه الوتيرة سنعانى قطعا من نقص فى البترول والمياه، لكن الأزمة الطاحنة ستكون بالأساس أزمة وقت.

***

كل شىء يحدث بالسرعة السريعة وينطلى ذلك على تطور الأشياء والمعدات وعلى حياتنا: المهن والأحوال تتبدل فى غضون سنوات، الماكينات تتغير وبعضها يندثر خلال شهور، الزيجات لا تستمر بل العديد منها عمره قصير، وبعدها تتكون أسر جديدة مجمعة على أنقاض عائلات انفضت، الصعود الاجتماعى سريع وكذلك الهبوط الاقتصادى لطبقات بعينها، الأحداث تتوالى، كل شىء صار قصير المدى حتى النظر ومجال الرؤية.

أصبح المنزل المتوسط يضم نحو عشرة آلاف سلعة وجهاز بدلا من أربعمائة فى بداية القرن الماضى، لكن لم توفر كل هذه السلع والأدوات الكثير من الوقت، مثلما توقعت مجلة «لايف» عام 1964 حين طرحت سؤالا حول ما سيفعله الإنسان بفائض الوقت المتراكم بسبب الميكنة والتحديث. على العكس، كلما ازدادت سرعة الماكينات، كلما تسارع الأداء وأخذنا نلهث أكثر وأكثر، وتفاقمت أزمة الوقت الذى لا نسيطر عليه بل هو الذى يحكمنا. الإنترنت، مثلا، سرع الاتصالات بكبسة زر إلا أنه وضعنا أمام كم هائل من الرسائل اليومية التى يجب الرد عليها أو التفاعل معها، أيضا السيارة والطيارة جعلتا التحركات أسهل وأسرع، لكنهما أيضا تغريان بالسكن أبعد هربا من المدينة أو بالسفر لمسافة طويلة وزيارة بلد بعيد خلال أربعة أيام فقط.

***

وأنا أعبث بأشيائى القديمة مجددا، أصنف حالى: أنتمى لهؤلاء الذين لا يتخلصون من ممتلكاتهم و«كراكيبهم» القديمة بسهولة، لهؤلاء الذين يتعلقون بالأشياء كما بالأشخاص، وهو حالنا جميعا، لكن بدرجات متفاوتة. أى لا أخشى الارتباط بالأشياء والأشخاص، بخلاف آخرين يفضلون التخلص من أشيائهم أولا بأول، خشية التعلق بها. هذا الكاسيت يحوى أول حوار صحفى أجريته فى حياتى وهذا نيجاتيف الصور الأولى عن عمالة الأطفال، وشريط «فى إتش إس» لحفل زفاف صديقتى... لكن لم يعد هناك جهاز فيديو لتشغيله، فقد توقف آخر مصنع يابانى (Funai Electric) كان لا يزال ينتج أجهزة الفيديو حتى شهر يوليو الماضى، كما توقفت قبلها شركة سونى اليابانية عن إنتاج «الووكمان» سنة 2010، وكانت هى التى طرحت هذا الجهاز للاستماع الصوتى المتنقل فى بداية الثمانينيات وغزت به الأسواق. وقبلها عام 2002، توقفت الشركة نفسها عن تصنيع شرائط فيديو «بيتاماكس». أما الديسكات التى كنت قد سجلت عليها بعض الكتابات والأبحاث بغرض حفظها فى التسعينيات، ولم أنقلها على «فلاشة يو إس بى»، فقد اختفى محتواها كما اختفت هى من الأسواق، وأصبح مكانها المتحف الاثنوجرافى بالقاهرة، خلف مجلس الشعب، والذى يجب إعادة النظر فى محتوياته ليضم مستقبليا بعض أدوات تكنولوجيا القرن العشرين، بما أنه يعنى برصد تفاصيل حياة الشعوب والمجتمعات.

بحسب الوكالة الأمريكية لحماية البيئة يتم التخلص سنويا من قرابة 2 مليون طن من الأجهزة الإلكترونية بما فيها أجهزة الكمبيوتر والتليفزيون، هذا بالإضافة إلى التليفونات المحمولة المستعملة التى يتم سحبها سنويا من الأسواق، لا يتم تدوير سوى 20% منها فقط، بما ينبئ بمشكلات بيئية لأن معظم هذه الأجهزة تضم عناصر سامة ومواد كيماوية بالغة الضرر. أما من يحتفظ بها فى متحفه الخاص، فقد يتمكن يوما من بيعها بسعر خيالى، كما فعل أحد الهواة عندما عرض محمول أى فون قديما، من الجيل الأول، على موقع إى باى بمبلغ عشرة آلاف دولار، ووجد مشترين، فللحنين سوق رائجة، والتفتيش فى الأشياء القديمة ونبش الماضى يعود أحيانا علينا بالفائدة على مستويات عدة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved