التواصل وقود النفس

هنا أبوالغار
هنا أبوالغار

آخر تحديث: الثلاثاء 3 ديسمبر 2019 - 9:25 م بتوقيت القاهرة

نعيش زمنا تحتل فيه وسائل الاتصال الالكترونية مساحة كبيرة فى البنيان الاجتماعى والاقتصادى للعالم، فالإنسان اخترع الكمبيوتر والإنترنت والتليفون المحمول وأضاف إليها وسائل التواصل الاجتماعى والرسائل التليفونية. هناك ٢٥٠ بليون (٢٥٠، ٠٠٠، ٠٠٠، ٠٠٠) إيميل يتم إرساله يوميا فى العالم. فى ٢٠١٩ أعلنت وزارة الاتصالات المصرية أن عدد خطوط المحمول فى مصر وصل إلى ٩٦ مليون خط وهو يعنى أن معظم المصريين معهم تليفون محمول، وإذا نظرنا إلى أمريكا نجد أن من يملكون المحمول الذكى يتفقدون الشاشة فى المتوسط ٤٧ مرة فى اليوم كما أنهم يرسلون ويستقبلون فى المتوسط ٩٤ رسالة تليفونية فى اليوم والأغلب أن هذا ينطبق على باقى بلدان العالم.
نحن نستخدم تليفوننا المحمول للتواصل مع الآخرين طوال اليوم وجزء كبير من الليل، فى نفس الوقت فإن معدلات مرض الاكتئاب ارتفعت فى العالم ليصبح هو المرض الأكثر شيوعا على الإطلاق عالميا والسبب الأول للتغيب عن العمل، فهناك أكثر من ٣٠٠ مليون شخص فى العالم يعانون الاكتئاب، وهذا المرض يأتى رقم اثنين بعد الحوادث فى أسباب الوفاة لدى الفئة العمرية ما بين ١٥ و٢٩ عاما حيث إنه فى أسوأ صوره يؤدى إلى الانتحار هروبا من الألم النفسى.
***
كثير من مرضى الاكتئاب يشكون الإحساس بالوحدة، هذا بالرغم من أن تواصلنا كبشر من المفترض أنه زاد.. ويرجح السبب فى هذا أنه تواصل غير ملموس لا يغذى حاجتنا للمشاعر والمشاركة الوجدانية، فهو تبادل جاف عبر الشاشات للمعلومات أو الآراء أو التحيات ينقصه الدفء الذى نحس به من تواجدنا فى مكان واحد، من تلاقى أعيننا ونبرة الصوت وتعبيرات الوجه. كثيرا ما تشكل التكنولوجيا الفرصة الوحيدة للتواصل حيث يفصلنا عن الآخرين حاجز ضيق الوقت وبعد المكان و«ريتم» حياتنا الذى أصبح أسرع من أن نستثمر وقتنا فى علاقات حقيقية، إلا أنه فى نفس الوقت يتسبب فى سوء الفهم أو الفتور، فالرسالة قد تُرسَل إلينا بنية خيرة ومشاعر طيبة فتصلنا عبر شاشة صماء لا نفهم منها سوى كلمات جافة نرد عليها بسرعة وسط مشاغل يومنا، فلا نعطيها وزنها ولا هى تغذى روحنا بالمشاركة الإنسانية مثلما يفعل اللقاء وتتركنا أكثر وحدة.
وصعوباتنا فى التواصل لا تنحصر فى التواصل الإلكترونى فحسب، فالمجتمع أصبح أكثر انقساما والفرد أقل قدرة على قبول واستيعاب اختلافه مع الآخر، فقدراتنا على التواصل المباشر سواء فى علاقاتنا الشخصية مع شركاء الحياة أو أبنائنا أو أصدقائنا أو فى مجال عملنا متعثرة فى خيوط اختلافنا كأجيال أو فى الثقافة أو فى التعليم.. إلخ وكثيرا ما يهاجمنا إحساس بالغربة بسبب إحساسنا بأننا نتكلم لغة لا يفهمها من نحدثه. وننسى أن التواصل مهارة نتعلمها فقط إذا ما بذلنا جهد حقيقيا عبر السنوات يبدأ فى الطفولة وبالتأكيد تتأثر بدخول الشاشة حياة أبنائنا، فهى مهارة تحتاج إلى ملاحظة وتنمية النفس، ضعف هذه القدرة لدينا يتسبب فى سوء الفهم وأحيانا الخلاف أو التباعد داخل الأسرة كما يؤثر على إنتاجيتنا ومهنيتنا فى مكان عملنا.
***
مكمن المشكلة الحقيقى فى التواصل هو إيجاد التوازن بين رغبتنا الصادقة فى فهم وجهة نظر ومشاعر الآخر وتوازنها مع رغبة أخرى قوية بداخلنا وهى إعلاء رأينا وإقناعه به، وهى مشكلة لا تحل إلا بالإنصات بالقلب قبل الأذن. أى أننا إذا كنا جادين فى التواصل الإنسانى نحتاج أن نتخطى الحواجز بداخلنا التى تجعلنا أقل قدرة على التفهم: فإذا دخلنا حوارا ولدينا حكم مسبق على الشخص أو على رأيه لأننا نراه «غبى أو عنيد أو تقليدى أو عصبى…» فلن نستطيع أن نفهم ما يقصده من كلماته. أن نستمع بكل حواسنا وذهننا شرط مهم لتحقيق تواصل حقيقى ولا يتم إذا كان عقلنا فى مكان آخر أو كنا ممسكين بتليفوننا المحمول فى حوار افتراضى موازٍ. كما أن أعيننا وتعبيرات وجهنا وأيدينا تلعب دورا مهما فى التعبير عن هذا الاهتمام، بالإضافة فإن «التعاطف» الصادق مع مشاعر الآخر سواء كانت انفعالا أو قلقا أو رأيا يهمه يشجع المتحدث أن يفتح لنا قلبه ويعبر بدون حواجز عما يدور بذهنه وهو ما يغذى روحنا إنسانيا ويجعلنا نخرج من الحوار أكثر تقاربا سواء كان إنسانيا فى العلاقات الشخصية أو فكريا فى مجال العمل، كذلك «السؤال والاستفسار» يشجع المتحدث على الاسترسال ويثرى الحديث بحقائق ينقصنا معرفتها.
الحديث الموصول فيه مشاركة بين شخصين للآراء والأفكار والأحلام وهو ما يوطد العلاقة لكنه أيضا يؤنس الإنسان ويطمئنه أنه ليس وحيدا، فالحاجة إلى التواصل ليست بالضرورة نابعة من رغبة الشخص فى حل مشكلة فقد يكون مجرد اكتشافنا أننا نتشارك نفس الهموم فيما يخص عملنا أفيد من أى حل، وقد يساعد هذا الاكتشاف فى بناء جسور تواصل بيننا بالرغم من اختلافات فى الشخصية أو الرؤية ويحول بيئة العمل من بيئة جافة إلى مكان نرتاح لتواجدنا فيه. وفى بيوتنا عندما يهتم كلا الزوجين بالاستماع إلى حكيهما لأحداث يومهما للآخر يصبحان جزءا من هذا اليوم الطويل بالرغم أنهما لم يكونا معا (وهى من أبسط وأجمل صور المشاركة). فقط مطلوب «مهارة استماع» صادق، فأحيانا يكون الصمت أكثر تعبيرا من الكلمة.
فى كل الأحوال سواء بالكلمات أو بالاستماع فنحن بخلقنا لهذه المساحة من التواصل الإنسانى فى كل علاقاتنا نغذى أرواحنا أيا كان نوع العلاقة، فالإنسان مبرمج منذ كانت حياته فى الغابات أن يعيش فى مجموعة وينتمى إلى قبيلة تحميه وتطمئنه، والوحدة مقلقة لبنى البشر وهى ليست بالضرورة مربوطة بكوننا منفردين، فأقصى أنواع الوحدة كثيرا ما نحسها ونحن وسط الناس فى حين أن كثيرا ما يبعدنا عنهم فقط هو رغبتنا فى بذل المجهود وقدرتنا على النظر بصدق فى أعينهم والإنصات باهتمام إلى كلماتهم لنوصل حبل الود والدفء.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved