حروب اقتصادية تؤتى أُكُلها!

شيماء صلاح
شيماء صلاح

آخر تحديث: الخميس 3 ديسمبر 2020 - 9:25 م بتوقيت القاهرة

لا شك أن القوة الاقتصادية فى ظل العولمة باتت القوة الموازية للقوة العسكرية دوليا؛ وأن قوة اقتصاد دولة ما لا يقل أهمية عن قوتها العسكرية، بل وأكثر أهمية منطقيًا. إذ إن قوة الاقتصاد تمكّن الدولة من تقوية وتعزيز احتياجاتها العسكرية كنتيجة وأثر، وأن انهيار الدول فى الآونة الأخيرة هو انهيار اقتصادى أكثر منه سياسى أو عسكرى، ثم إن الاستعمار فى زمن العولمة بات استعمارا اقتصاديا، وتحول الحصار العسكرى إلى حصار اقتصادى، وباتت العقوبات الاقتصادية السلاح الرادع دِوَليَّا ليثبت تفوقه العملى على السلاح النووى، وأصبحت المقاطعة الاقتصادية بمثابة قرع لطبول الحرب، وبات الجلوس على موائد المفاوضات الحل الأنسب لرفع رايات السلام، وتجلى حل الخيار السلمى فى التحالفات والاتفاقيات.
تربعت القوة الاقتصادية على عرش العالم، وغدا من يملكها يملك زمام الأمور ويتقلد الحكم. ولكى تتمتع الدولة بقوة اقتصادية تمكنها من خوض المعارك الاقتصادية رابحة لابد أن تمتلك عدة قوى تمكنها من النصر الاقتصادى، وفى ذات الوقت لديها آليات الدفاع عن الاقتصاد القومى، وهذه القوى تتلخص فى: أولا قوة فى ميزان المدفوعات كى لا يتأثر بالصدمات الخارجية أو على الأقل قوة تمكنه من امتصاص تلك الصدمات. ثانيا قوة العملة الوطنية تجاه العملات الأجنبية وما تتمتع به هذه العملة من تاريخ وقيمة بين العملات الأخرى. ثالثا قوة الجهاز الإنتاجى داخل الدولة وقدرته على سد الاحتياجات الداخلية وتفوق القدرة التصديرية التنافسية. رابعًا كبر حجم السوق الداخلية فى الدولة واتساقه وتنوعه بحيث يكون متوافقا مع إمكانات الدولة الإنتاجية، وبما يمكنه من استيعاب الأنشطة الاقتصادية. خامسًا مرونة الجهاز الإنتاجى لإنتاج السلع المختلفة، فعلى سبيل المثال شركة جنرال موتورز الأمريكية للسيارات يمكن أن تتحول لإنتاج الدبابات وقت الحاجة ــ ونذكر بالحدث بعد أقل من 24 ساعة من ضغوط الرئيس الأمريكى دونالد ترامب وتلويحه بقانون الإنتاج الدفاعى، لإرغام شركتى جنرال موتورز وفورد، على إنتاج أجهزة تنفس صناعى للمساهمة فى مكافحة وباء كورونا فى الولايات المتحدة، أعلنت جنرال موتورز تحويل أحد مصانعها لقطع غيار السيارات لإنتاج المعدات الطبية اللازمة.
***
فإذا دقت طبول الحرب الاقتصادية، أشهرت الدول أسلحتها والتى تختلف وتتباين بحسب درجة قوة اقتصاد الدولة، وهدف هذه الحرب، وكذا النتائج المرجو تحقيقها، وحجم التأثير المستهدف، والوضع الاقتصادى للدولة المستهدفة؛ والتى يمكن حصرها فى الحصار الاقتصادى، المقاطعة الاقتصادية، الغزو الاقتصادى، افتعال الأزمات، والعقوبات الاقتصادية.
بداية يعد الحصار الاقتصادى من أشد أسلحة الحروب الاقتصادية فتكًا وذلك من خلال منع دخول وخروج السلع للمنطقة المحاصرة اقتصاديا؛ بفرض حصار بحرى وجوى وبرى مثلما حدث مع العراق وكوبا، مما يترتب عليه نقص فى الأدوية والغذاء، وبالتالى نتائج اقتصادية واجتماعية بعيدة المدى مثل المجاعات والأمراض، ومن ثم يليها الضغط السياسى والدولى.
بينما تعد المقاطعة الاقتصادية من أهم أسلحة الحرب الاقتصادية؛ من خلال المقاطعة الكاملة لسلع إحدى الدول وعدم الاستيراد منها أو التصدير إليها، وذلك باستخدام المنتجات المنافسة لمنتجات تلك الدولة وعدم إعطائها أى فرصة لترويج سلعها التصديرية. وتعد مقاطعة السلع الغذائية أكثر تأثيرًا؛ لأنها أكثر سرعة فى التلف تليها بعد ذلك السلع المصنعة. وقد تجلى سلاح المقاطعة جليا مؤخرا حينما انتشرت بكثافة دعوات لمقاطعة المنتجات الفرنسية؛ احتجاجًا على دعم الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون للرسوم الكاريكاتورية التى نشرتها مجلة شارلى إبدو للنبى محمد، وقيام سلطات بعض المناطق الفرنسية بنشر هذه الرسوم على مبان عمومية للتضامن مع المدرس القتيل صامويل باتى، والتى هرول على إثرها الرئيس الفرنسى بالاعتذار غير المباشر وطلب عدم المقاطعة لما لها من نتائج كارثية على الاقتصاد الفرنسى. حيث تعد فرنسا خامس مُصدر فى العالم بنسبة من السلع فى السوق العالمية تصل إلى 3.1%.
***
وعلى خطى الغزو العسكرى يخطو الغزو الاقتصادى فى صورة إغراق سلعى من خلال اختراق الأسواق الداخلية للدول النامية لإغراق بعض السلع والمنتجات؛ وذلك بهدف ضرب الجهاز الإنتاجى الداخلى للدولة، وإضعاف قدرته على المنافسة وذلك باستغلال الاتفاقيات الدولية التى تتيح حرية التجارة العالمية. ومن زاوية أخرى يتم اختراق الأسواق عن طريق الاحتكار وتملك خطوط الإنتاج والصناعات الحيوية فى الدول المراد تدميرها اقتصاديًّا. والدليل على ذلك علاقة الولايات المتحدة الأمريكية بأوروبا من خلال تجارة الصويا، حيث تمتلك الولايات المتحدة الاحتكار العالمى لتجارة الصويا، وتصدر منها كل عام مليونات من الأطنان لتغذية الحيوانات التى يعتمد غذاء أوروبا من اللحوم بشدة عليها. أو قد يأخذ الإغراق شكلا ماليا؛ من خلال إغراق الدول المعنية بالديون والفوائد حتى تفقد القدرة على السداد وترضخ للضغوط السياسية والدولية، كما فعلت الصين مع عدد من الدول التى استولت فيها على عدد من الموانئ والمناجم والمناطق الإستراتيجية الهامة.
بيد أن سلاح افتعال الأزمات الاقتصادية والذى تمتلكه الدول المتقدمة من خلال أجهزة لصنع الأزمات الاقتصادية فى الدول الأخرى سواء أزمات مالية أو نقدية، أو افتعال الأزمات بين دول الجوار المستهدفة بالحروب الاقتصادية؛ لتستفيد الدول العظمى من عمليات بيع السلاح واستنزاف الموارد الطبيعية لتلك الدول، يعد أكثر الأسلحة شيوعا على الساحة العالمية. مثلما حدث بين سوريا وتركيا، والإمارات وإيران.
ومن زاوية أخرى يعد سلاح العقوبات الاقتصادية أشهر وأقوى سلاح اقتصادى تملكه وتستخدمه القوى العظمى ذات الاقتصادات القوية. على سبيل المثال فرضت أمريكا حظرا اقتصاديا على كوبا عام 1959 عقب الثورة الكوبية باعتبار أن كوبا دولة راعية للإرهاب، وفرضت عقوبات اقتصادية على كوريا الشمالية بسبب حربها الأهلية مع جارتها الجنوبية منذ الخمسينيات استمرت حتى الآن، كما فرضت أمريكا وعدد من الدول الأوروبية عقوبات ضدها أيضا لوقف تجاربها النووية. فرضت الولايات المتحدة الأمريكية عقوبات على إيران مع احتجاز عدد من الرهائن إبان الثورة عام 1979، إلى جانب الحظر على الأصول الإيرانية والسفر، إضافة إلى تجميد كل الأصول الإيرانية التابعة للولايات المتحدة الأمريكية، وأوقفت أمريكا تحويل الأموال من وإلى إيران واستهدف القانون الأمريكى عام 2010 وقف إمداد الوقود الإيرانى ونص على اتخاذ إجراءات ردع على المجموعات الأجنبية التى تستثمر فى قطاع النفط الإيرانى، وتبنى قانون جديد للكونجرس الأمريكى فرض عقوبات جديدة ضد إيران وشدد الرئيس الأمريكى ترامب العقوبات ضدها لاستمرار جهودها فى توسيع برنامجها النووى. بينما بدأت أولى عقوبات الولايات المتحدة الأمريكية ضد روسيا إبان عصر الاتحاد السوفيتى، وتلا ذلك عقوبات عام 2012 ضد مسئولين روس اتهمتهم أمريكا بممارسة انتهاكات لحقوق الإنسان، ثم تبع ذلك فرض عقوبات جديدة على ما يخص الاقتصاد الروسى إبان الأزمة الأوكرانية. وفرض الاتحاد الأوروبى على روسيا عقوبات تستهدف قطاعات كاملة بالاقتصاد الروسى إضافة إلى تجميد الأصول وحظر السفر بسبب اتهامها بدعم الانفصاليين المتهمين بإسقاط الطائرة الماليزية. أما الجهات المخول لها استخدام سلاح العقوبات، اقتصادية أو سياسية، فهى مجلس الأمن الذى يحتاج لموافقة أغلب الدول الأعضاء قبل إقرار العقوبة، والأمم المتحدة وغالبا ما تشمل حظر السفر وتجميد الأصول المالية للدول المفروض عليها العقوبة. على سبيل المثال؛ مجلس الأمن حظر عام 2006 بيع السلاح لكوريا الشمالية واستيراد المعدات التكنولوجية أو تصديرها، وامتد ذلك ليشمل المعدات العسكرية والمعاملات المالية.
***
وجدير بنا الإشارة إلى أنه يمكن أن تأخذ الحرب الاقتصادية الشكل الضارى للنزاع الاقتصادى والتجارى، كما حدث فى الحرب التجارية الأمريكية الصينية. وكان البلدان قد خاضا فى العام الماضى حربا تجارية أدت إلى الإضرار بالاقتصاد العالمى. ولكن كثيرين يعتقدون بأن الخلافات بين البلدين تتجاوز النطاق التجارى، بل تمثل صراعا على الهيمنة بين نظرتين مختلفتين للعالم. أو قد تأخذ الشكل الناعم من خلال خطط لضمان التبعية الاقتصادية وذلك عن طريق ربط اقتصاديات الدول المستهدفة باقتصاديات الدول العظمى عن طريق إمدادها بالغذاء والأدوية وتقديم المساعدات والمعونات الاقتصادية إلى غير ذلك، مما يضمن ولاء تلك الدول للدول العظمى من الناحية الاقتصادية والسياسية. أو شكل الحماية العسكرية؛ والتى تضمن فيه الدول المتقدمة الحماية العسكرية الدائمة أو المؤقتة لعدد من الدول ذات الموارد الطبيعية والتى لا تملك القوة للدفاع عن نفسها، نظير الحصول على الأموال والدعم والقروض والموارد الطبيعية النادرة. ومثال ذلك حماية القوات الأمريكية لدول الخليج العربى. ومن نافلة القول إن الحرب الاقتصادية باتت تؤتى أكلها كل حين لمن يملك قوة الإنتاج واستقرار الاقتصاد وثِقَل الوزن النسبى فى الاقتصاد العالمى؛ ولا صوت يعلو فوق صوت المعركة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved