تمددات موسكو.. ارتباطات القاعدة الروسية فى «سواكن» بالتنافس الشرق أوسطى

العالم يفكر
العالم يفكر

آخر تحديث: الخميس 3 ديسمبر 2020 - 9:25 م بتوقيت القاهرة

نشر مركز المستقبل مقالا للكاتب حمدى عبدالرحمن.. نعرض منه ما يلى.

عندما أصدر الرئيس الروسى «فلاديمير بوتين» مرسومًا يفوض وزارة الدفاع الروسية بالتوقيع على اتفاق مع السودان لإنشاء قاعدة عسكرية روسية دائمة، أو «محطة إمداد بحرية» فى ميناء بورتسودان؛ بدا الأمر وكأنه مفاجأة للعديد من الكتاب والمراقبين، ولكن فى الواقع يدور النقاش حول هذه القاعدة منذ ثلاثة أعوام تقريبًا. وعلى الرغم من تغير المشهد الجيوستراتيجى بعد الإطاحة بنظام «البشير» العام الماضي؛ فإن الكثير من مبررات الدعوة للقدوم الروسى إلى البحر الأحمر فى ذلك الوقت لا تزال تحمل مصداقية، وتساعدنا على فهم طبيعة التحالفات الدولية الناشئة فى المنطقة.
وفقًا لنص الاتفاقية فإن فترة سريانها الأساسية هى 25 عامًا، مع إمكانية تمديدها لعقد آخر، بموافقة الطرفين. وسوف تضم القاعدة البحرية الروسية حوالى 300 فرد عسكرى ومدنى، كما أنها لا تخضع للولاية القضائية السودانية. وسوف تكون القاعدة قادرة على استيعاب نحو أربع سفن حربية، بما فى ذلك السفن التى تعمل بالطاقة النووية. لن تدفع روسيا أى إيجار للسلطات السودانية، لكنها وافقت على شحن بعض الإمدادات العسكرية والأسلحة إلى السودان مجانًا بموجب اتفاق إضافى منفصل. وتتحمل موسكو تكاليف أعمال البناء لإنشاء القاعدة، بما فى ذلك أماكن المعيشة والمستودعات ومرافق الصيانة البحرية والأرصفة. علاوةً على ذلك، ستوفر روسيا دفاعات مضادة للطائرات لتغطية كل من قاعدتها والأصول البحرية السودانية القريبة فى بورتسودان. ولا يذكر مشروع الاتفاق أى قاعدة جوية روسية فى السودان بالإضافة إلى محطة الإمداد البحرية المعلنة، لكن يبدو أنه سوف يتم السماح للطائرات الروسية باستخدام المجال الجوى السودانى. وقد يُسمح لموسكو بالاستفادة من المطار الدولى جنوب بورتسودان. وبحسب مسودة الاتفاقية يمكن زيادة عدد العسكريين الروس فى السودان مستقبلًا.

دوافع بناء القاعدة الروسية
يمكن الحديث عن ثلاثة اعتبارات رئيسية على النحو التالى:
1ــ إن إنشاء أول قاعدة روسية فى السودان خصوصًا، وأفريقيا بشكل عام، يمثل مفتاح روسيا لأفريقيا ومنطقة الشرق الأوسط. وربما ينطوى ذلك على العودة إلى عالم الشئون الأفريقية بعد التراجع السريع الذى شهدته العلاقات الروسية الأفريقية فى أعقاب الحرب الباردة. إذ تسعى روسيا جاهدة إلى توسيع نفوذها بعد أزمة أحداث «الربيع العربى» فى شمال أفريقيا والتوجه جنوبًا على طول البحر الأحمر. ويعنى ذلك فى نهاية المطاف التركيز على منطقة شرق أفريقيا، ولا سيما إثيوبيا، والاحتفاظ بوجود دائم على طول طريق الحرير الجديد الممتد من بورتسودان إلى العاصمة التشادية نجامينا. تعود موسكو لتؤسس موطئ قدم عسكرى لها فى منطقة تعتبرها ذات أهمية استراتيجية بالغة فى الصراع على النفوذ القادم فى كل من البحر الأحمر والمحيط الهندى.

2ــ تعكس الطبيعة البحرية للقاعدة الروسية فى السودان الجوانب الأخرى المرتبطة بالدور الروسى فى إعادة هندسة النظام الدولى. فمن الجليّ أن الفكر الاستراتيجى الروسى يتعلق بتوسيع النفوذ خارج القارة الأفريقية ليشمل ممرات الشحن البحرى فى البحر الأحمر، والتى تربط آسيا وأوروبا وخليج عدن وبحر العرب والمحيط الهندى. وتحتفظ الولايات المتحدة بقاعدة مهمة من الناحية الاستراتيجية فى جزيرة دييغو غارسيا بالمحيط الهندى. وعلى أية حال سوف تكون القاعدة الجديدة فى السودان امتدادًا مهمًّا للقواعد البحرية والجوية الروسية الموجودة فى سوريا والتى تم توسيعها وتطويرها بعد وقت قصير من تدخل روسيا فى الحرب الأهلية السورية لتضم عشرات السفن الحربية، وتوفر الصيانة والإمدادات جنبًا إلى جنب مع الدعم الجوى. يعكس ذلك محاولات إعادة التوازن فى النظام الدولى، ولا سيما فى حالة التنسيق الروسى الصينى.

3ــ تكتسب القاعدة الروسية بُعدًا استراتيجيًّا مهمًّا آخر، نظرًا لارتباطها بالمحيط الهندى. لقد أضحت منطقة شمال غرب المحيط الهندى مركز ثقل رئيسيًّا لإنتاج الهيدروكربونات فى القرن العشرين، حيث يتم تصدير النفط إلى أمريكا وأوروبا عبر هذه المنطقة. ولا شك أن أى عدم استقرار فى المنطقة يترتب عليه ارتفاع الأسعار ويؤثر على الاقتصاد العالمى. لقد تأخرت البحرية الروسية فى القدوم إلى المحيط الهندى، وكانت جميع القواعد مشغولة بالفعل من قبل الدول الأوروبية. فشلت جميع المحاولات الروسية السابقة للحصول على معقل لها فى أفريقيا. وقد استطاع الاتحاد السوفيتى الحصول على وجود عسكرى فى كل من الصومال وإثيوبيا، ومع ذلك لم يتطور المحيط الهندى إلى جبهة للحرب الباردة. فقد شاركت السفن الحربية السوفيتية والأمريكية فى المهمة نفسها لضمان حرية الملاحة ومحاربة قراصنة البحر. ومع انهيار الاتحاد السوفيتى تراجعت القدرات البحرية لموسكو، وقد استمرت هذه الفترة ما يقرب من عقدين من الزمن، وهو ما كان كافيًا لجعل عودة الأسطول الروسى للمياه الزرقاء فى أعالى البحار مهمة صعبة.

وطبقًا للخبراء العسكريين فإن القيمة الاستراتيجية لقاعدة بورتسودان فى وقت السلم تكمن فى كونها ورشة عائمة، وقاطرة إنقاذ تتألف من 3ــ4 سفن حربية صغيرة. ومع ذلك، فإن القوة الرئيسية للقاعدة سوف تتألف من أجهزة الاستخبارات والقوات الخاصة، حيث تحتاج المنطقة فى الغالب إلى مهمات خاصة وليس عسكرية. وفى حالة ضرورة الخيار العسكرى، يمكن إرسال سفن حربية كبيرة، بما فى ذلك غواصات وطرادات نووية. ومع ذلك يظل السؤال الرئيسى متعلقًا بخطط موسكو المستقبلية: هل يتم اعتبار بورتسودان المعقل الجنوبى للوجود الروسى فى أفريقيا والشرق الأوسط؟ أم إنها ستكون الخطوة الأولى نحو عودة روسية كاملة إلى المحيط الهندي؟.

إعادة هندسة الدور الروسي
إن القضية الأكثر صلة بالموضوع المتعلق بدوافع ودلالات قاعدة سواكن الروسية ترتبط بمحاولة روسيا إحداث «توازن استراتيجى» فى مجال علاقاتها بالمجتمعات ذات الأغلبية المسلمة. ارتبط هذا التفكير الروسى بالعقوبات الغربية عليها خلال السنوات الماضية. كانت التوقعات تتحدث عن «التوجه الروسى شرقًا» للتخفيف من حدة الحرب الاقتصادية التى تقودها الدول الغربية، ولكن الأمر فى نهاية المطاف دفع بروسيا للتوجه جنوبًا صوب المجتمعات الإسلامية من أجل تحسين استراتيجيتها القارية الوسطية لتقف بين طريقين: الشرق (الذى تمثله الصين)، والغرب (الذى يمثله الاتحاد الأوروبى والولايات المتحدة). لقد أظهرت الظروف الجيوستراتيجية الراهنة المرتبطة بصراع شرق المتوسط، وحرب ناغورنو كاراباخ، وجود زواج غير مقدس بين روسيا وتركيا من خلال محاولتهما التحكم فى ديناميات «الشرق الأوسط الكبير».

ومع توقع ممارسة مزيد من الضغوط عليهما فى ظل إدارة الرئيس الأمريكى القادم «جو بايدن»، فإن ذلك قد يدفعهما إلى بناء تحالف براجماتى غير رسمى. وربما تكون النتيجة فى مثل هذا المسار إعادة ضبط الدور الروسى للقيام بتحقيق التوازن الاستراتيجى بين أطراف المعادلة الرئيسية فى منطقة الشرق الأوسط. ونظرًا لعلاقة السودان فى مرحلة ما بعد «البشير» المتميزة بدول الخليج العربية فإن ذلك يعكس دلالة أخرى هى إمكانية وجود علاقات تعاون وثيقة بين روسيا ودول الخليج، وهو ما يسهم فى تحييد المتغير التركى فى ثلاثية العلاقات الروسية الخليجية التركية. وإذا ما نجحت روسيا فى التوصل إلى تسوية سياسية فى روسيا، فإنها سوف تعزز من رؤيتها الاستراتيجية فى فضاء العالم الإسلامى.

عودة موسكو إلى المعترك الدولى
ينبغى أن نضع مسألة إقامة القاعدة الروسية فى السودان ضمن السياق الأكبر لمحاولة روسيا استعادة نفوذها فى الشرق الأوسط وأفريقيا. ففى أكتوبر 2019، استضافت الحكومة الروسية أول قمة روسية إفريقية فى سوتشى، حضرها أكثر من 54 رئيس دولة إفريقية. وكان على رأس بنود أجندة العمل الرئيسية تعزيز التعاون العسكرى. وطبقًا لخطاب الرئيس «بوتين» فى القمة فإن هناك «عسكريين من 20 دولة إفريقية يدرسون فى مؤسسات التعليم العالى التابعة لوزارة الدفاع الروسية». ويهدف التعاون العسكرى والفنى الروسى الإفريقى إلى تعزيز القدرات القتالية للقوات المسلحة الأفريقية. روسيا لديها اتفاقيات تعاون فنى عسكرى مع أكثر من 30 دولة إفريقية. وعليه، ينبغى فهم مبادرة موسكو الخاصة بالسودان على أنها جزء من أجندة أكبر للحكومة الروسية لإعادة تأكيد سلطتها فى منطقة الشرق الأوسط الكبير وأفريقيا باعتبارها قوة موازنة لحلف الناتو والولايات المتحدة.
ومن المرجح أن قاعدة سواكن الجديدة سوف تسهل على البحرية الروسية العمل فى المحيط الهندى من خلال قدرتها على الطيران فى أطقم بديلة لسفنها بعيدة المدى، كما أنها سوف تعزز من وجود روسيا فى أفريقيا وتحصنه بأنظمة صواريخ أرض ــ جو متطورة، مما يسمح لها بإنشاء منطقة حظر طيران لأميال حولها. ولعل الدلالة الكبرى لقاعدة روسيا فى السودان تكمن فى أنها سوف تفرض على الآخرين السماع للصوت الروسى فى القضايا الدولية.

النص الأصلى
https://bit.ly/39zhcbd

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved