زوابع الفناجيل

محمد عبدالمنعم الشاذلي
محمد عبدالمنعم الشاذلي

آخر تحديث: الجمعة 3 ديسمبر 2021 - 7:55 م بتوقيت القاهرة

من الحكم الدارجة فى التراث العامى المصرى طلب الابن من أبيه: «علمنى الهيافة يابا»، ورد الأب: «تعالى فى الهايفة واتصدر»!
ولعل هذه الحكمة تنطبق بشكل مثالى على الضجة التى ثارت أخيرا على مسرحية المومس الفاضلة.
ما إن شعاع الخبر بنية إنتاج المسرحية حتى هب المدافعون عن الفضيلة يثيرون الأمر فى مجلس النواب وهو أكبر منبر تشريعى فى البلاد.
ولأن لكل فعل رد فعل مساويا له فى القوة ومضادًا له فى الاتجاه فقد انبرى رواد الفن والمسرح دفاعا عن حرية الفكر وحرية التعبير يصبون جام غضبهم على قوة التخلف والظلام التى تريد أن تحجب شمس الحضارة والتنوير.
زوبعة فى فنجال تصرف الأنظار عن قضايا أهم وأكثر إلحاحا فى كل الميادين ومنها ميدان الفن والمسرح ذاته.
لعل من احتج على لفظ «مومس» خانته الذاكرة ونسى أننا عرضنا فيلم إيرما الغانية فى دور العرض السينمائى منذ سنوات طويلة وأعتقد إن لم تخنى اللغة فإن غانية مرادفة لكلمة مومس ثم أنتجنا فيلما مقتبسا عن القصة باسم «خمسة باب» وهو اسم ماخور مشهور فى القاهرة فى عقد الأربعينيات من القرن الماضى.
إن اهتمامنا باللفظ أكثر من المضمون، والمظهر أكثر من الجوهر، يذكرنى بهبة الرقابة انتصارا لقيم العائلة ورمز الأب من أجل الحفاظ على مهابته ووقاره عندما عرضت مسرحية بعنوان «حزمنى يا بابا» وانتصرت الرقابة للقيم وللأب وتم تغيير اسم المسرحية إلى « حزمنى يا». كم فيلما وكم مسلسلا وكم مسرحية أظهر الغوانى والعاهرات بشكل فج بذىء دون اعتراض أو رقيب.
ولعل من لا يعرف خلفية هذه المسرحية يجهل أن مؤلفها هو الأديب والفيلسوف الوجودى الاشتراكى JeanــPaul Sartre الحائز على جائزة نوبل فى الأدب عام 1964 وقد نشرها فى عام 1946، ورغم أنه فرنسى الجنسية إلا أن أحداث المسرحية تجرى فى مدينة نيويورك بالولايات المتحدة عن حادثة أولاد سكاربورو وهم مجموعة من أولاد الصفوة والثراء الأمريكيين قتلوا رجلا أسود لدفاعه عن غانية بيضاء كانوا يتحرشون بها وتعرضت الفتاة لضغوط شديدة لمنعها من الإدلاء بشهادتها أمام المحكمة لمنع إدانة أولاد الصفوة.
•••
لعل من الملاحظات على تناول الموضوع هو الخطأ فى ترجمة اسم المسرحية الذى هو La Putain respectueuse وهو يعنى المومس المحترمة وليس الفاضلة التى تترجم Vertueuse ولكنى هنا أتصدى للهيافة امتثالا لنصيحة الأب فى المثل فما هذا إلا اختلاف لفظى، فما الفرق بين فاضلة ومحترمة وما الفرق بين المومس والغانية؟
تدور المسرحية حول Lassett الغانية التى تتعرض لتحرش عنيف من فريد وأصدقائه أثناء ركوبها القطار فيتدخل رجل زنجى وصديقه لإنقاذها من المغتصبين فيطلق توماس ـــ صديق فريد ــ النار عليهم من مسدسه فيردى صديق الزنجى قتيلا ويتوجه المتحرشون ومنهم فريد إلى الشرطة للإبلاغ بأن الزنجى وصديقه حاولا اغتصاب Lassett وأنهما تصديا لهما لإنقاذها وأطلقا النار دفاعا عنها، فيتحول الضحية إلى جانٍ وتنشط الشرطة للقبض على الزنجى ويضغط عم فريد وهو سناتور ثرى على Lassett حتى لا تشهد بالحقيقة وترضخ فى نهاية الأمر للترهيب والترغيب رغم تعاطفها مع الزنجى.
الهدف من المسرحية كان تعرية الظلم الاجتماعى والعنصرية وتحكم المال والجاه فى العدالة وكانت المسرحية سببا فى عداء شديد لجان بول سارتر فى الولايات المتحدة فى فترة الحرب الباردة وأثناء الهستيريا المعادية للشيوعية والاشتراكية التى قادها السيناتور جو مكارثى والتى عرفت بالفترة المكارثية والتى اضطهد فيها العديد من الفنانين والمثقفين ومنهم شارلى شابلن الذى هجر الولايات المتحدة إلى بريطانيا هربا من الاضطهاد.
لعلنا نتساءل عن سبب الزوبعة التى أثارتها مسرحية المومس الفاضلة رغم أنه سبق عرضها فى المسرح القومى فى ستينيات القرن الماضى وقامت ببطولتها عميدة المسرح المصرى السيدة سميحة أيوب التى انبرت لإخراج النسخة الحديثة من المسرحية كما أنى أذكر إن لم تخنى الذاكرة أن إذاعة البرنامج الثانى أذاعتها ضمن سلسلة روائع المسرح التى حرصت على تقديمها للجمهور كما أن السينما قدمت الغوانى فى أكثر من عمل أذكر منها دور ريرى الذى قدمته ببراعة واقتدار ناديه لطفى أمام العملاق محمود مرسى عن قصة نجيب محفوظ «السمان والخريف». وشادية التى قدمت دور نور أمام شكرى سرحان عن رواية أخرى لأديب نوبل اللص والكلاب.
•••
وأطرح مع هذا التساؤل تساؤلا آخر موازيا، لماذا اختيرت هذه المسرحية لتقديمها الآن رغم سبق تقديمها؟ لماذا لم يتم اختيار مسرحية مثل بيت الدمية لإبسن أو الان لبريخت من الأدب العالمى أو مسرحية مثل السبتية أو الناس اللى تحت من تراث المسرح المصرى لإعادة تقديمها فى صورة عصرية.
أنا لا أقصد مهاجمة المسرحية أو الإقلال من قيمها ولكن أشير إلى أن المناخ السائد على الساحة لا يساعد على تقبل هذا العمل الذى أرى أيضا أنه لا يخدم غرضا فى هذا التوقيت، فمع سلسلة الأعمال الفنية الهابطة والألفاظ السوقية البذيئة والنابية المتداولة على لسان تجار وفجار المهرجانات أدت إلى ردود فعل وحساسية للشذوذ الحركى واللفظى وفى المقابل تكونت جبهة من دعاة الليبرالية تدافع باستماتة عن تصور مشوه لليبرالية وحرية التعبير ويرون فى الالتزام بآداب اللغة والأخلاق قيدا على حرية التعبير ونشر القبح والفجاجة والابتذال.
ويزداد الأمر ضغثا على إبالة عندما يتدخل رأس المال للدفاع عن الفجاجة والابتذال مهاجما نقيب المهن الموسيقية على استبعاد من يسيئون إلى الفن والموسيقى فى قرية سياحية وكأنها دولة داخل الدولة لا يسرى عليها ما يسرى على باقى البلاد.
•••
إن من قرأ مسرحية المومس المحترمة لا يجد فيها مشهدا ولا لفظا بذيئا أو خارجا يستحق الضجة التى أثيرت حول اسمها بعكس الألفاظ الهابطة والمشاهد البذيئة التى تسود العديد من الأعمال التى أعجز عن تسميتها بالفنية.
الفن رسالة سامية له تأثير على المجتمع وعليه مراعاة خصوصيات المجتمع وظروفه فلا يمكننا تصور بلد يعد نفسه للحرب لتحرير أرضه المحتلة يصدر أعمالا تصف الحرب بالجريمة وتؤكد حتمية الحفاظ على السلام، أو دولة تتعرض لأزمة اقتصادية ومجاعة وتنتج أعمالا عن حياة البذخ والمجون.
مصر تتعرض لتحدى مهاجمة القيم والأخلاقيات وتهدد بانقسام المجتمع بين شديدى التزمت وشديدى التسيب. فليؤدِ الفن دوره فى بقاء المجتمع وسطيا بعيدا عن الشطط والتطرف كما كان دائما.
دعونا لا نستفز بعضنا البعض ونحافظ على الوئام بيننا وقبول الآخر وأن نركز على الأمور الهامة ولا نضيع الوقت فى البحث عن لزوم ما لا يلزم.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved