«حوار الأجيال».. استمرار أم انقطاع؟

إيهاب الملاح
إيهاب الملاح

آخر تحديث: السبت 3 ديسمبر 2022 - 8:55 م بتوقيت القاهرة

ــ 1 ــ
رحم الله الدكتور حسن حنفى (1935ــ2021) الذى رحل عن عالمنا قبل ما يزيد قليلًا على العام بأيام. بالتأكيد كان مثقفًا وأستاذًا كبيرًا، وصاحب مؤلفات وأعمال كثيرة مهمة.. وله سلاسل من الأعمال التى تمثل مشروعا فكريا كبيرا وضخما، مهما كان الرأى فيها، والاختلاف حولها تظل شاهدا على المجهود الضخم الذى بُذل فيها، وفى تأليفها وجمعها.
وقد كان ــ رحمه الله ــ غزير الإنتاج مسهبا فى شرح أفكاره وتصوراته؛ قرأتُ الكثير من كتبه، وتوقفت عند بعضها وقفات خاصة لأهميتها ومنهجيتها وغزارة مادتها.. وخاصة ما كان يكتبه عن كبار الشخصيات الثقافية ومشروعاتهم الفكرية، ولا أنسى كتابه الكبير المهم «حوار الأجيال» الذى قرأت فيه فصولًا رائعة عن طه حسين، وأمين الخولى، ونصر أبوزيد، وغيرهم.
كما كان رحمه الله من المعدودين الموهوبين فى الحديث المباشر والارتجال وشرح الأفكار الصعبة، وتجلية المفاهيم والمصطلحات الفلسفية الغامضة والمعقدة؛ بالجملة كان «خوجة» كما يقول الكتاب. وبرغم كل ما اختلفتُ فيه معه، ومع بعض مواقفه الحدية من أسماء كتاب ومفكرين سبقوه إلى رحاب الله، تظل قيمته حاضرة بمنأى عن أى اختلاف أو خلاف.. ومن ضمن أعماله التى تربو على المائة، دائما ما يستوقفنى كتابه المهم «حوار الأجيال» (صدرت طبعته الأولى عن دار قباء عام 1989) الذى يعبر عن مضمونه من عنوانه، ومن القراءات التى يطرحها لأبرز أعمال ومشروعات المفكرين والمثقفين المصريين فى القرن العشرين.
ــ 2 ــ
ولعل أهم ما يمثله هذا الكتاب ــ فى رأيي ــ هو هذا التقليد المهم والأصيل فى اضطلاع جيلٍ مثقف تتلمذ على جيل مؤسس سابق بتكريم أعلامه وأساتذته ورواده بالكتابة عنهم وتخليد ذكراهم وتقدير منجزهم، من منظور تحليلى ونقدى وليس فقط احتفائى.
فمنذ فجر النهضة الحديثة حمل المثقف العربى هموم الفكر والوطن. وقد دفعت «صدمة الحداثة» إلى التفكير فى سؤال شكيب أرسلان الذى صاغه من بعد لماذا تخلف المسلمون وتقدم غيرهم؟ سواء عندما كان العرب جزءا من الخلافة العثمانية وبداية حركة القوميين العرب أو عندما أصبح العرب دولا تحت الاحتلال وبداية معركة الاستقلال وحركات التحرر الوطنى. وفى كلتا الحالتين كانت معركة التحديث هى الأهم. فعندما كان العرب ولايات عثمانية ثم أقطارا تحت الحماية أو الوصاية أو الاحتلال ثم أصبحوا دولا مستقلة كان «التحديث» هو المطلب الرئيسى، فالقضاء على التخلف فى الداخل هو شرط الاستقلال عن الخارج.
من هنا يستعرض حسن حنفى عبر منهج القراءة الذى يقوم على التأويل برؤية الحاضر فى الماضى، ورؤية الماضى فى الحاضر، فلا يوجد تاريخ موضوعى للفكر بل إثراء متبادل وحوار خلاق كما فعل كل الفلاسفة والمفكرين الكبار فى تاريخ الفلسفة الغربية مثل هيجل وهوسرل وهيدجر، وكما فعل الفلاسفة المسلمون مع الفكر اليونانى القديم.
ــ 3 ــ
ولعل هذا الكتاب ــ الذى كان من أوائل ما قرأت له فى فترة مبكرة من الطلب والدرس ــ مثَّل لى فى تلك الفترة نبراسا أهتدى به فى فهم وتمثل صيرورة الاتصال والاستمرار والحيوية التى يجب أن تكون قائمة بين «جيل» و«جيل»، بل بين أجيال وأجيال.
فلن يستقيم أبدًا الحديث عن أى نهضة أو نهوض أو تطور أو بحث عن مستقبل أفضل بدون إقامة الجسور والكبارى «المعرفية» أولًا بين الخبرات السابقة والأجيال التالية، وما الانتكاسات أو التراجعات التى نعانى منها على مستوى التعليم والفكر والثقافة والرؤية المستقبلية إلا بسبب هذه الانقطاعات الجذرية بين الأجيال المتتالية وبين جيل الأساتذة الكبار وأصحاب الأفكار والرؤى الباعثة على التفكير والنقد والتجاوز والأخذ بأسباب وشروط التقدم والنهوض والتحديث الحقيقى الذى يبدأ بالبشر أولا وقبل أى شىء وليس الحجر.
فإذا كان ثمة جيل مؤسس رائد يمثله الكبار طه حسين والشيخ مصطفى عبدالرازق وأحمد أمين والشيخ أمين الخولى ومحمد شفيق غربال وحسين فوزى، وغيرهم من رواد النهضة والتحديث والتجديد فى تاريخنا الثقافى المعاصر، فإن جيلًا بل أجيالًا تالية تتلمذت عليهم وتشربت منهم أسس التفكير العلمى والنقدى والمنهجى، وتمرست على أيديهم فى العطاء العلمى والإنتاج المعرفى، برزت فيها أسماء بقيمة وقدر وحضور: سهير القلماوى، ومحمد مندور، وعبدالرحمن بدوى، وزكى نجيب محمود، وتوفيق الطويل، ومحمد عبدالهادى أبوريدة، ولويس عوض، وحسن إبراهيم حسن، ومحمد كامل حسين، وأحمد فؤاد الأهوانى، وعبداللطيف حمزة، ومحمد زكى حسن، وفؤاد زكريا.. إلخ.
هؤلاء، وغيرهم، قد مثلوا جميعًا هذه الحيوية اللازمة للاستمرار والتجاوز، هذه الحيوية التى بدونها يحدث الانقطاع والجفاف والتراجع والتردى المرعب المفزع على كل المستويات، كان النابهون والنابغون من هذه الأجيال (وما أكثرهم فى ذلك الوقت) كانوا حلقة الوصل الأمينة والأصيلة والراسخة بين هذا الجيل، والأجيال التالية.
ــ 4 ــ
وعندما أستعيد كتابات هذا التراث القريب؛ أقصد الكتابة التى اضطلع بها كل أستاذ جليل وكبير فى مجاله تخصصه عن أساتذته، وعن إنجازاتهم وتصوراتهم ومشروعاتهم الفكرية فى مجالات الإصلاح الدينى والسياسى والاجتماعى، وفى تجديد الخطاب الثقافى ككل، أكتشف على الفور التاريخ الحقيقى والحى والنابض لهذه الثقافة؛ التاريخ الذى يموج ويمور بالأفكار والجدل بين القديم والحديث، الوافد والموروث، النهم لكل ما يسهم فى تغيير أوضاعنا السيئة، والانتقال إلى حال أفضل ولو ببطء، حالة من الحراك الفكرى والذهنى والثقافى غير المسبوقة، تمثلت فيها أجلى خصائص التمدن والتحضر والرقى والقدرة على استيعاب الاختلاف واحترام الآخر والالتفاف حول أصالة المشروعات النهضوية الكبرى، كل بقدر جهده ومشاركته وإسهامه.
كانت ثمة وحدة للعلوم والمعارف الإنسانية، فلا انفصال بين الأدب واللغة والنقد، وغيرها من العلوم الإنسانية الأخرى؛ الفلسفة والتاريخ والاجتماع والجغرافيا والآثار والسياسة، وبين كل هؤلاء والإيمان الكامل بالعلم الحديث وتطبيقاته فى الفيزياء والكيمياء والطب وعلوم البحار والأحياء الدقيقة... إلخ.
بنود مترابطة - 10

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved