يا رب يا ربنا

أهداف سويف
أهداف سويف

آخر تحديث: الأربعاء 4 يناير 2012 - 12:50 م بتوقيت القاهرة

السبت، آخر يوم فى سنة ٢٠١١ عملنا سبوع (متأخر شوية) لخالد ابن منال وعلاء. جنينة قد المنديل، تركتها لنا أمى الله يرحمها، فى المنصورية بس مش فى الجزء الشيك، فى جزء عادى، فيه بيوت ومحلات ومشاتل وورش وسوق وناس عايشة. نتردد على المكان منذ عشرين عاما فصرنا إلى حد ما جزءا منه.

 

كنسنا الأرض وفرشنا حصير وعلقنا لمض ملونة وأعلام مصر، والمكان اتملى بالأهل والأحباب، والناس جابت معاها ما لذ وطاب من المأكولات (وأنا دبحت معزة بس الحقيقة طلعت فظيعة ورفضت تستوى وأنتهز الفرصة لأعتذر للأصدقاء) وشَغَّلنا أغانى سعاد حسنى وعفاف راضى، ودقينا الهون وسَمَّعنا خالد صوت الكون ورشينا الملح والسبع حبات وغربلنا النونو وبخرناه وغنينا له حلقاتك برجلاتك إنزل واهتف ويا اخواتك ونبهنا عليه يسمع كلام ماما ويسمع كلام بابا ومايسمعش كلام أى حد من المجلس العسكرى. جنينة ماما كانت بتُشِعّ طاقة وبهجة ومحبة ونور.

 

وفى المساء، بعد ان تم السبوع وانفضت القعدة، ذهب كثيرون منا إلى الميدان، ميدان التحرير. بيت العيلة الكبير. جميل أن أصبح لنا ــ وبرغم الأيام الحالكة ــ بيت عيلة، فى أى مناسبة ــ وبدون مناسبة كمان ــ الواحد بيعدى عليه. كل حد بيكَلِّم كل حد، وكل حد له حق فيه. ده من مكاسب الثورة: أن أصبح عندنا بيت عيلة بتاعنا بيلمنا كلنا، أكبر بيت عيلة فى الدنيا. نزلنا التحرير ولحِقْنا الجزء الأخير من احتفالية راس السنة وغناء كورال بديع ــ أعتقد إنه كورال كنيسة قصر الدوبارة. دعاؤه لله أن يحفظ مصر يصعد إلى سماء التحرير مع البالونات والشماريخ. ثم جاءت أنغام «أنا باحبك يا بلادى» ــ وهى الأغنية/ النشيد التى تكفى جملة موسيقية واحدة منه لإحياء كل مخزون الحزن والشجن والحب والإصرار عندنا. يعنى أنا شخصيا باكون بابكى على الشهداء ولأهاليهم، وفى نفس اللحظة فخورة بيهم وبالثورة، ومتفائلة، وموقنة أننا مستمرين وإن اللى جاىــ- فى النهاية ــ خير كبير.

 

قولوا لأمى ماتزعليش… وحياتى عندك ما تعيطيش ــ شهداؤنا أصبحوا جزءا من نسيج حياتنا، مثل أهلنا وأحبابنا الذين رحلوا، نصطحبهم معنا فى حياتنا اليومية، نعمل حسابهم، نستلهمهم، تومض صورهم الضاحكة المستبشرة فى أذهاننا فى لحظات معينة، وكل وجه شهيد برّاق تحيطه جمهرة من الأحباب تَذْكُره وتتمسك بسيرته وبحقه. شهداؤنا ثروة، كالنيل والشمس، وأرض مصر السمراء، يمدوننا بالطاقة والعزم للمضى فى طريق الخير.

 

 يوم الخميس كنا فى شبين القناطر، وشبين القناطر الآن بلد الشهيد سامح عز، الشاب الذى قتلوه يوم ١٧ ديسمبر فى أحداث شارع مجلس الشعب وشيع جنازته فى اليوم التالى الآلاف. صورته مرفوعة فى صدر شادر «الثورة مستمرة» جنب محطة القطر. وقف الكل حدادا عليه وعلى الشهداء. جاءت أختاه ووالدته، وعزمونا نروح عندهم وأصروا: «تعالوا شوفوا حياة سامح». ذهبنا وشُفنا وسمعنا. شهدنا على حياة سامح وعلى توصيات أم سامح.

 

شارع المطافى، وبيت من ثلاثة طوابق، وتحت البيت محل إنترنت. البيت بيت أسرة سامح، والبيتين اللى جنبه ــ واحد من كل ناحية ــ أيضا بيوت أقارب. محل الإنترنيت مشروع سامح، اشتغل عند أخيه إلى أن جمع مبلغا من المال، وأعطته أمه المحل تحت البيت فاشترى الكمبيوترات وجَهِّز المكان واشتغل. فتحوا لنا المحل، الخميس ٢٩ ديسمبر فى المساء، وقالت أمه إن لما حاولوا يفتحوه قبل كده المفتاح عصلج، فكانت هذه أول مرة يفتح منذ أن ذهب سامح: الكمبيوترات، والكراسى، وكوبيتين بيهم بقايا شاى كشرى، ومصحف وسجادة صلاة وكيس نايلون فيه أدوية ومراهم يستعملها سامح لعلاج الإصابة والحرق اللذين حظيا بهما فى محمد محمود. أول مرة يُفتح منذ أن ذهب سامح إلى شارع مجلس الوزراء. قالت له أمه بلاش تروح النهاردة، الدنيا كلها قلق. قال أنا ما باعملش حاجة، أنا باساعد بس. قالت له بلاش تروح النهاردة، الليلة هنخطب لك. طلب من أخوه يسَلِّفه بدلته البيضا اللى سبق راح خطب بيها، يحَضَّرهاله على بالليل. نادت له أمه من الشباك. استدار وبص عليها وشاور لها، مشى بضهره مبتعدا، بضهره متجها نحو الشارع الكبير، بيضحك لها وبيشاور لها باى باي، أمه فى الشباك، تحتها محل النت بتاعه، فوقها شقته اللى سبوهاله من شهر عشان يتجوز فيها.

 

أمه قاعدة على كرسى ترقب النت الذى فتح لأول مرة منذ رحيله. الناس اللى رايحة واللى جاية بتسلم عليها وتترحم عليه. تقول الأم إن أبوها كان ناظر مدرسة، تقول إن زوجها، أبو سامح، كان فى الجيش، وأخد شظايا فى رجله فى ٦٧، ثم أخذ ــ فى ٧٣ ــ شظايا فى عينه أفقدته البصر، ولم يتقاعد، وماخدش حاجة من حد، فتح مشاريع ومحلات وعاش حياة واشتغل وربَّى الأولاد، ثمانية أولاد رباهم وعلمهم، ستة تزوجوا وبقى سامح وأخت أخيرة. الأخت ستتزوج وتروح مع جوزها وسامح سيتزوج فى البيت. سامح قعد بأبوه الشهر الأخير لمرضه، وسامح سيتزوج فى البيت: شقته فوق شقة أمه. أصحابه معلقين على بلكونتها بوستر لسامح. المطافى معلقة بوستر لسامح. النت عليه بوستر لسامح. يافطة النت سامح كان كاتب عليها: «حتة ولد، مغَلِّب بلد». أخته تقرأها وتضحك. كان بيشجع الزمالك. كان بينزل الثورة يساعد المصابين. قتلوه وهو بيرفع الشيخ عماد عفت من على الأرض. لكن: سامح إيه؟ إبنى إيه فى وسط آلافات الشباب؟ تقول أمه، ابنى إيه جنب مصر؟ ولا حاجة. ذَرَّة. بس ماتضيعوش حقه، حقه هو حق مصر. ماتسيبوهوش وماتسيبوش الشباب. هاتوا حق مصر، وحق ولادنا.

 

لن ترقص الأم فى فرح سامح. مش هتحَنِّى إيدين ابنها ولا هتزغرد فى سبوع إبنه. لكنى أُجزم أن شبين القناطر سترزق بمواليد كثر يُسَمُّون سامح، كل واحد منهم ابنها. علاء ومنال سمُّوا خالد، وأسمع من الشباب فى كل مكان هاسمِّى مينا، سامح، خالد.

 

 

تانى يوم سبوع خالد ــ يوم الأحد ــ ظهر شخصان على موتوسيكل فى المنطقة، وداروا يسألوا الناس حوالين جنينة أمي: إيه الحفلة اللى اتعملت هنا امبارح؟ مين كان هنا؟ كانوا بيقولوا إيه؟ بيغنوا إيه؟ بيهتفوا إيه؟ سمعنا بهذا يوم الاثنين فتوجهنا أنا والمهندس علاء سويف، أخى، والمحامى أحمد سيف الإسلام، زوج أختى، إلى قسم البوليس الذى نتبعه وسجلنا اعتراضنا وحاولنا نعرف من الذى أرسل الشخصين والموتوسيكل، وأصر العميد مأمور القسم - الذى قابلنا بكل لياقة واحترام ــ إن الناس دول مش من عنده ولا يعلم عنهما أى شىء. ظل العميد يلف ويرجع لسؤال إن كان عندنا مشاكل مع حد فقال علاء «أيوة الحقيقة عندنا مشكلة مع المجلس العسكرى»، فأُسقط فى يد الرجل وقال يبقوا أكيد الناس دول مش من عندنا. سأل علاء يعنى ينفع جهة تانية تتحرك فى منطقة سيادتك بدون علمك؟ فأسقط فى يده أكثر وفَهِمنا إن أيوة، ينفع. قلنا له إن بما إننا تبعه، فسنلجأ إليه لو أى حد سبِّب مشاكل لجيراننا، وخدنا رقم تليفون القسم وتركنا أسماءنا وأرقامنا برجاء إن اللى له طلب أو عايز معلومة يتصل بينا شخصيا ومافيش داعى يلف حوالين الجنينة ويعمل قلق للناس. ولاختصار الوقت، وللحقيقة والتاريخ، أسجل هنا أننا، فى سبوع خالد علاء عبدالفتاح، كنا نهتف ونقول: «أيوة بنهتف ضد العسكر / إحنا الشعب الخط الأحمر»، وكنا أيضا نغنى ونقول: «يا رب يا ربنا / زيح المجلس من وشِّنا». وهذا إقرار منى بذلك.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved