سنة الصفر

داليا شمس
داليا شمس

آخر تحديث: السبت 4 يناير 2020 - 9:05 م بتوقيت القاهرة

السنوات "الصفرية" التي تشير إلى دخول عقد جديد تثير عادة حالة من الارتباك، مزيج من الحنين والتفاؤل والمشاعر المختلطة، وذلك بغض النظر عن النقاشات التي تدور حول إن كانت الألفية الثانية تبدأ بالواحد أم بالصفر، أي 2000 أم 2001، فمرور عشر سنوات يوحي دوما بأننا ختمنا لتونا "العقد الفريد"، وبأن مرحلة انطوت وسنعيش أخرى. ثم نعيش مجددا مثل "الأطرش" بالزفة.. نضع يدنا على خدنا ونتربع أمام شاشة التليفزيون ونتابع عملا يشبه أدب الدستوبيا التي ترسم واقعا مريرا لمجتمع فاسد ومخيف، تسوده الفوضى، أبرز ملامحه الخراب والقمع والقتل والفقر.

بدأ عام 2010 بزلزال ضرب هاييتي وأسفر عن عشرات الآلاف من القتلى، وحاز- خلال العام نفسه- الكاتب البيروفي ماريو فارجاس يوسا جائزة نوبل في الآداب عن مؤلفاته التي ترسم خرائط بُنى السلطة وأشكال المقاومة لدى الأفراد المختلفين الذين يتـأرجحون ما بين الثورة والفشل. مثله مثل معظم أدباء أمريكا اللاتينية من أبناء جيله، الذي توفي أغلبهم، ارتبط ارتباطا وثيقا بالسياسة، موضحا أنه في بعض الدول البعيدة عن الديمقراطية لا يملك المرء ترف عدم الانخراط في السياسة وأن الروايات قادرة على رصد ملامح الأنظمة الشمولية بتعقيداتها وخباياها أكثر من أي شيء آخر. وعلى هذا النحو، ظلت قصصه ورواياته تخلط الواقع بالتاريخ والخيال منذ مجموعته الأولى "القادة" التي نشرت في نهاية الخمسينات وحتى سيرته الذاتية الفكرية التي صدرت قبل عدة أشهر لتختم العشرية، تحت عنوان " نداء القبيلة"، وتحدث فيها عن تجربته في اكتشاف الديمقراطية والليبرالية من خلال مؤلفين مهمين مثل آدم سميث وكارل بوبر. مواقف الرجل السياسية مركبة وأكثر تعقيدا مما يظنه الكثيرون، فبعد أن أعتقد لسنوات أن الماركسية الشيوعية هي مخرج البشرية من الظلم، تحول من اليسار إلى اليمين كعدد من الشعوب في أوروبا وأمريكا اللاتينية. يحلل صعود الشعبوية والقومية حول العالم ككارثة، فنتربع مرة أخرى أمام شاشة التليفزيون ومعنا علبتا كلينكس، ونبكي الجميع، فبالأمس عشنا ما أفسدته القومية والآن هي منتشرة في كل مكان... كأن حصوله على نوبل في بداية العشرية كان إنذارا أو علامة، واختتامه لها بكتاب جديد أيضا كذلك.
***
تأتينا الأخبار واحد تلو الآخر من خلال الهواتف المحمولة "بيب.. بيب" شارات ورنات متقطعة تفيد بأن ثمة ما حدث حول العالم أو في محيطنا الشخصي، فهذا العقد الفريد كان عقد التابلت والهواتف الذكية بلا منازع، ظهرت الأخيرة عام 2007 مع طرح "الآي فون" تجاريا، وبعدها "الآي باد" عام 2010، وبيع منه سنتها فقط حوالي 1.4 مليار جهاز حول العالم، ثم صارت هذه الألواح الصغيرة والهواتف الذكية جزءًا لا يتجزأ من حياتنا، إذ انضممنا إلى زمرة "المتواصلين" و"المرتبطين بالشبكة" رغم أنف الجميع. نقاوم ونثور ونفشل مثل أبطال فارجاس يوسا الثمانيني المقيم حاليا في أحد أحياء مدريد الراقية، ونتابع صورنا على الشاشات الصغيرة بين أيدينا في الميادين أو ونحن جالسون على الأريكة دون أن نغادر المنزل. ربما لم نر من قبل هذا العدد من الأعلام التي ترفرف في الشوارع، بعيدا عن مباريات كرة القدم. اكتظت الميادين بالهتافات الهادرة مطالبة برحيل الديكتاتور أو منددة بالفساد. ثم عدنا إلى الأريكة وعلب الكلينكس. "بيب.. بيب: فلان مات". "بيب.. بيب: فلان اعتقل". "بيب.. بيب: داعش دخلت الرقة". "بيب.. بيب: داعش خرجت من الرقة". "بيب.. بيب: تغير نمط حياتكم للأبد". "بيب.. بيب: توفي صالح علماني، المثقف الفلسطيني الذي ترجم معظم أعمال يوسا وغيره من أدباء أمريكا اللاتينية إلى العربية، في ديسمبر 2019". "بيب.. بيب: اتصل بكذا للحصول على هديتك لهذا العام". ولكي تعرف كيف تصل إلى بيت صديق اسأل "جوجل"، ثم توجه إلى موتور البحث نفسه لتعرف أفضل محال شاورمة في المحيط وتأكل قبل العودة إلى منزلك.
***
الذكاء الاصطناعي يحيط بنا من كل جانب، وكذلك الغباء الطبيعي. كل شيء مراقب بالكاميرات، وأنت أيضا، حرصا على سلامتك. كل البيانات والحسابات قابلة للاختراق، وبالتالي تسريب البيانات والكشف عنها وارد بشدة، لذا هزت ويكيليكس ووثائق بنما العالم خلال العشرة أعوام الماضية. يتم فضح شخصيات نافذة وملاذتها الضريبية وعمليات تبييض الأمول، ننشغل بهم طويلا أو قصيرا، نتابع حكاياتهم على شاشات التليفزيون ومعنا علبتا الكلينكس لنبكي على حالنا، ثم يظهر آخرون. وننتقل بدورنا لوسائل التواصل الاجتماعي لنطلع على آخر تغريدات ترامب الذي كان ضمن من جعلوا العقد فريدا. ونردد الشعبوية لا تنفصل عن القومية، هي واحدة من أكبر كوارث البشرية. ربما الذنب ليس ذنب العقد الفريد. ربما لم يكن حالنا أفضل أبدا. ربما العتب على الذاكرة. ربما.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved