كيف كَرَّم الله السيدة مريم العذراء؟!

أكرم السيسى
أكرم السيسى

آخر تحديث: الثلاثاء 4 يناير 2022 - 9:45 م بتوقيت القاهرة

يُعتبر كل ما ذُكر فى القرآن الكريم من أحداث أو من أسماء لشخصيات هو توثيق أو تكريم للحدث أو للشخصية؛ لأن بذكرهم وبتسميتهم بكلمات من الله أصبحت مقدسة، وذلك باعتبار أن كلمات الله يُتلى بها فى الصلوات، وفى التعبُّد له، فنرى أن أهم الأنبياء قد ذكرهم الله فى كتابه بتحديد أسمائهم، وبقَصِّ سِيَر جهادهم فى الدنيا، وبدعواتهم إلى الله لكى تصبح نماذج للبشرية كلها إلى أن تقوم الساعة.
وعن النساء، فلم يُذكر منهن فى القرآن الكريم بالاسم صراحة سوى السيدة مريم؛ والتصريح بالاسم يكون للمدح إذا كان فى المدح، وللذمّ إذا كان فى الذّم، ونلاحظ فى سورة التحريم أنها من أعلى المذكورات فى سياق النساء، ولهذا يعتبر ذكر أسمها من باب المدح، وهذا يُعد التكريم الأول للسيدة مريم ــ عليها السلام ــ فقد قَصّ علينا القرآن قصتها كاملة، بينما النساء الأخريات جاء ذكرهن فى القرآن عرضا لا قصدًا!
وفضلًا عن هذا، فقد ذكرها الله بكلماته المقدسات أكثر من مرة، وفى أكثر من سورة قرآنية، وهذا يُعد التكريم الثانى لها، خاصة وأنها السيدة الوحيدة التى ذُكر اسمها صراحة ودون كِنية ــ كما سبق القول ــ فقد ذُكر غيرها كنية فقط، مثل السيدة سارة زوجة ابراهيم، حيث ذُكرت بالتلميح لها: «وَٱمرَأَتُهُۥ قَآئِمَة فَضَحِكَت فَبَشَّرنَٰهَا بِإِسحَٰقَ وَمِن وَرَآءِ إِسحَٰقَ يَعقُوبَ» (هود:71).
وكذلك امرأة فرعون: «وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آَمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِى عِنْدَكَ بَيْتًا فِى الْجَنَّةِ وَنَجِّنِى مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِى مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» (التحريم:11)، وبالمثل أم موسى ــ عليهما السلام ــ «وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِى الْيَمِ».. (القصص:7)، وأخت موسى ــ عليهما السلام: «وَقَالَتْ (أم موسى) لِأُخْتِهِ قُصِيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ، وَحَرَمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ، فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِهِ كَيْ تَقَرَ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ».. (القصص:11).
كما ذُكر ابنتى النبى شعيب ــ عليهم السلام ــ «وَلَمَا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَة مِنَ النَاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِى حَتَى يُصْدِرَ الرِعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (...)، وقَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوىُّ الْأَمِينُ» (القصص: 23ــ26)؛ وقد ذُكرت أيضًا ملكة سبأ بالإشارة إليها فقط: «قَالَتْ يَا أَيُهَا الْمَلَأُ إِنِى أُلْقِيَ إِلَىَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ، إِنَهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَهُ بِسْمِ اللَهِ الرَحْمَنِ الرَحِيمِ، أَلَا تَعْلُوا عَلَىَّ وَأْتُونِى مُسْلِمِينَ، قَالَتْ يَا أَيُهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِى فِى أَمْرِى مَا كُنْتُ قَاطِعَة أَمْرا حَتَى تَشْهَدُونِ» (النمل: 29ــ32).
وأخريات ذكرهن القرآن ليس تكريمًا لهن، كما فعل مع امرأة فرعون ومثيلاتها، وإنما لعنة عليهم فى تعبد المؤمنين بالله فى صلواتهم، هذا هو الحال مع امرأتى لوط ونوح عليهما السلام: «ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ» (التحريم: 10).
•••
وبالعودة للسيدة مريم العذراء ــ موضوع مقالنا ــ صاحبة المعجزة الفريدة بأنها وَلَدت المسيح عيسى دون أن تتزوج، ودون أن يمسسها أحد، وعليه وُجِهَت من بنى إسرائيل باتهامات تمس أعز ما تملك المرأة، ولكن مريم يأتيها التكريم الثالث من الله، فهى لم تتول الدفاع عن نفسها، بل دافع عنها رب العالمين بذاته العليا، وبرَّأها، وشرح لنا قصتها تفصيلًا بقوله: «وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِى أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ» (التحريم: 12)؛ ويؤكد المولى ــ سبحانه وتعالى ــ على هذا التكريم فى آية أخرى بقوله: «وَالَّتِى أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آَيَةً لِلْعَالَمِينَ» (الأنبياء:91).
ولم يكتف الله بأن برَّأها، فقد كرّمها بالتكريم الرابع، وهو الأقوى والأعلى، بقوله: «وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ» (آل عمران: 42)، ويريد الله بذلك جُل ثناؤه على السيدة مريم، فقوله: «اصطفاك» ــ مرتين فى آية واحدة ــ يعنى بها اختارك على نساء العالمين فى زمانك، بطاعتك إياه، ففضَّلك عليهن أجمعين، وهذا ما خصّك به من كرامته وقوله: «وطهَّرك» يعنى به طهَّر دينك من الرّيب والأدناس التى فى أديان نساء بنى آدم.
وفى تكريم خامس من الله للسيدة مريم، أن وردت قصتها فى أكثر من سورة قرآنية، ووضعها فى صفوف الأنبياء، وذلك فى قوله تعالى: «وأذكر فى الكتاب مريم».. (مريم: 16)، مثلها فى ذلك مثل قصة إبراهيم (أبو الأنبياء) عليه السلام، حيث اُستهلت كذلك ــ فى القرآن الكريم ــ بقول مماثل: «وأذكر فى الكتاب إبراهيم».. (مريم ــ 41)، أو مثل قصة موسى: «وأذكر فى الكتاب موسى».. (مريم: 51)، وبالمثل إسماعيل: «وَاذْكُرْ فِى الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ».. (مريم:54)، وكذلك إدريس: «وَاذْكُرْ فِى الْكِتَابِ إِدْرِيس».. (مريم: 56).
كما أنه توجد ضرورة استوجبت ذكر اسمها صراحة، وليس تلميحًا أو إشارًة، وهو الحرص الشديد من الله على نَسَب عيسى إلى أمه، وعلى اقتران اسمه باسمها، فالله ــ سبحانه وتعالى ــ إما أن يقول: «عيسى ابن مريم»، أو يقول: «المسيح ابن مريم»، أو يقول: «المسيح عيسى ابن مريم»، وقد كان هذا ضروريا للتأكيد على الميلاد الإعجازى للمسيح من عذراء، وعلى أنه لا ينتسب إلى أب من البشر.
ونأتى إلى التكريم السادس الذى يرد فى الإجابة على سؤالنا: لماذا جُمِع بين اسم مريم وكنيتها «ابنة عمران» والتى انفردت بها الآية (12) من سورة التحريم: «وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِى أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا»..؟، والجواب عنه أن مقام ذكر مريم فى هذه الآية ــ كما سبق القول ــ هو مقام المدح والثناء عليها، وضَرْب المثل بها فى عظيم إيمانها بكلمات الله التى سبقت، وأعلنت البشرى بميلاد المسيح المنتظر من فتاة عذراء، ومقام المدح والثناء يقتضى الذكر الكامل لمن نمدحه ونثنى عليه، أى التحديد الدقيق لشخصه وهويته حتى لا يلتبس لدى السامعين بشخص سواه قد يحمل نفس اسمه الأول.
وهنا نلاحظ أن آية التحريم قد ذَكرت أكثر من محدد واحد من محددات الشخصية، وهى:
أولًا: الاسم العلم (مريم)؛ وثانيًا: الكنية (ابنت عمران)؛ وثالثًا: الصلة، أى الصفة أو الميزة، التى خص بها الله مريم بقوله: «التى أحصنت فرجها».
•••
لا مجال إذن بعد هذا التحديد الدقيق لحدوث أدنى لبس حول هوية «مريم»، أما لو أنه قد اكتفى بذكر اسمها فقط «مريم» فإن مَن تحملن هذا الاسم من «المريميات» ــ إذا صح القول ــ كثيرات فى تاريخ الديانة اليهودية بحيث لا يتبين معه من تكون مريم المقصودة من بينهن جميعًا، وكذلك لو أنه قال: «ابنة عمران» فقط دون أن يذكر اسمها «مريم» فإن المراد لا يتحقق مطلقًا، لأنه من غير المعروف لدى أتباع المسيح أن والد مريم يُدعى «عمران»، فالأناجيل الأربعة المعتمدة قد خلت من ذكر اسم والد مريم على الإطلاق، بل العهد الجديد كله لا يوجد به أى ذكر له، وعلى العكس يوجد اسم مغاير لعمران ورد فى أحد الأناجيل غير القانونية والمُسمى «إنجيل يعقوب»، حيث يذكر أن اسم والد مريم هو «يواقيم» وليس «عمران».
هذا التدقيق المبالغ فيه، سواء فى ذكر اسمها صراحة من دون نساء العالمين، وتكراره فى أكثر من سورة قرآنية، وتحديد نسبها بدقة متناهية «ابنة عمران»، وذكر قصتها كاملة، والتأكيد على صفتها ــ فى سورتى التحريم والأنبياء بأنها «والتى أحصنت فرجها»، لا يمكن اعتباره إلا اهتمام كبير وتكريم عظيم لها من رب العالمين.
فسلام على السيدة مريم العذراء ابنة عمران فى يوم مولد ابنها المبارك عيسى المسيح بن مريم، وسلام على كل الأنبياء والرسل والنساء المؤمنات والقانتات اللاتى ورد ذكرهن فى كتاب الله العزيز ليكونوا جميعًا قدوة لنا رجالًا ونساء، شبابًا وشابات، فتيًة وفتيات، صبية وصبايا.
فاللهم تقبل منا دعاءنا فى يوم مبارك من أيام الله المباركة، وارزقنا هداية المُعلم السيد المسيح عيسى بن مريم التى جاء بها، ومن أعظمها الحب والتسامح والتواضع لله، كما جاء فى تعاليمه الإلهية: «سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ (للقدماء): تُحِبُّ قَرِيبَكَ وَتُبْغِضُ عَدُوَّكَ. وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ. بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ. أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ، وَصَلُّوا لأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ» (متى 5: 43، 44).

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved