سوناتا البيانو والفطير

داليا شمس
داليا شمس

آخر تحديث: الأحد 5 فبراير 2017 - 11:53 ص بتوقيت القاهرة

ربما لا شيء يربطهما سواى. الفطير والبيانو. أعشقهما منذ الصغر. لا أرى أكثر ما هو أناقة من منظر سيدة تعزف البيانو، وقد أخذتها الموسيقى إلى مسافات بعيدة، كأن العالم خلا من حولها. سوناتا للبيانو، أى قطعة مكتوبة خصيصا للآلة، تملأ الحجرة بالشجن. الأصابع تتسارع ثم تهدأ، تتشنج ثم تلين، وجدران الغرفة تدمع.. تلك الحجرة التى وضع بها طقم صالون مذهب، وفى الزاوية وضع البيانو الألمانى الأسود، لكن وجوده احتوى البيت بأسره.

لم أعرف ما هو أكثر إمتاعا وبهجة من منظر صانع الفطير الضخم، الذى بدا وكأنه يأكل يوميا مما يخبز. وجهه الضاحك كان يشع انبساطا عندما تطلب منه فطيرة بالسكر وأن يلفها لك على شكل سيجارة مبرومة، كى تلتهما فورا وأنت تمشى فى الشارع. يحب فكرة أنك تحب ما يحب ويصنع. يزداد غبطة، ويلهو بالعجينة فى الهواء، تنطوى وتنفرد، ثم يقذفها مرة أخرى إلى أعلى.. مشهد أكثر إبهارا من لاعبى السيرك المحترفين. وهو يعزف سوناتا أخرى على طريقته، سوناتا العجين الذى تعبأ رائحته الدكان الصغير، بكل ما فيه من برطامانات زجاجية مغطاة حتى لا يطالها الذباب، بها كل أنواع الحشو.

•••

حالة من الحزن والتأمل، تقابلها حالة من اللعب والفرح، هكذا ظلت الصورتان تطاردانى، كأصابع البيانو أسود وأبيض، فى متتالية للحزن والمرح، مثلما الحياة. خلق هو لكى يلهو بالفطير ويأكله، فيضيف إليه كتلا إضافية من اللحم. وخلقت هى لكى تلعب بيانو، ويكون لها من اسمها نصيب، إذ اشتق من السهر.

علاقاته الفردية بالعجين تشبه فى مكان ما علاقتها هى بالآلة، علاقة حسية وحميمية بامتياز، لا مجال لتدخل أحد بينهما، وربما يرجع جزءا منها للوراثة وتقاليد العائلة.

فلسنوات طوال كان البيانو ضمن ديكور العديد من منازل الطبقة الوسطى وما فوقها، لا راديو ولا تلفزيون ولا فونوغراف، بل آلة موسيقية للتسلية والعزف والغناء، خاصة فى يوم السيدات. أما بالنسبة للفطير، فلم يكن هناك «برجر الملوك» و«كريب البرنس»، لكى يتعلم تحضيره من والده، بل شرب سر الصنعة أبا عن جد، حتى لو لم يحاول دراسة تاريخ الفطير فى مصر، ومتى ظهر وكيف تنوعت وصفاته وطرق عجنه وفرده.

•••

ينتاب الإنسان أحيانا شعور بالسخط والملل من كل شيء، فى بيته وعمله والحكومة والعالم أجمع. فتراه يذهب إلى ذكرى أشخاص ارتبطت بمشاعر أكثر صدقا، سواء فى الحزن أو فى الفرح. يستمع إلى موسيقاهم الداخلية ويحاول ضبط مزاجه على درجة معينة من الحساسية نفتقدها بشدة. يتمنى أن يتعلم الجميع خبز الفطير وعزف البيانو، إذ ربما يصيرون بنى آدمين أفضل. فمع الموسيقى تزداد قدرتنا على تحمل الألم والغلاظة، ومع الفطير جيد الصنع تكون الحياة أشهى وألذ.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved