«كورونا» و«بريكست» و«صفقة القرن» والهشاشة

صحافة عربية
صحافة عربية

آخر تحديث: الثلاثاء 4 فبراير 2020 - 8:55 م بتوقيت القاهرة

نشرت جريدة الشرق الأوسط اللندنية مقالا للكاتب غسان شربل.. جاء فيه ما يلى.
ثلاثة أحداث كبرى سرقتِ الأضواء، وإنْ بنسبٍ متفاوتة وأحجامٍ مختلفة، فى الأسبوع المنصرم: تفاقم القلق من انتشار فيروس «كورونا»، ومغادرة بريطانيا الاتحاد الأوروبى رسميا، وإعلان الرئيس دونالد ترمب «صفقة القرن». بدا واضحا أنَّ الحدث الصينى تحول مصدرَ قلقٍ أو هلعٍ على مستوى العالم كله، وأنَّ الحدث البريطانى اعتبرَ منعطفا حاسما على الصعيدين البريطانى والأوروبى، مع انعكاساته الدولية، وأنَّ الصفقة التى أعلنت اعتبرت أيضا محطة غير عادية، سواء لجهة البحث عن السلام بين إسرائيل والفلسطينيين، أو بالنسبة إلى الدور الأمريكى فى عملية البحث هذه. لا شيء يربط بين الأحداث الثلاثة سوى ما كشفه تزامنها من هشاشة فى صورة الدول أو التجمعات الإقليمية أو المرجعيات الدولية.
حين نتكلَّم عن الصين، لا نستطيع إلا أن نتذكر حجمها وصعودها: الدولة الأولى فى عدد السكان فى العالم، وصاحبة الاقتصاد الثانى فيه، فضلا عن الجيش الأكبر المنهمك بعصرنة ترسانته. الدولة التى أيقظت «طريق الحرير»، وتتقدَّم هنا وهناك بعدما أخرجت مئات الملايين من المواطنين من الفقر، وحققت قفزة تكنولوجية لافتة. ولهذا كنَّا نقرأ قبل أسابيع فقط ما يكتب من سنوات عن «اقتراب العصر الصيني» و«صعود الصين» وانتقال مركز الثقل فى العالم إلى الشق الآسيوى منه.
فجأة، وبسبب فيروس «كورونا»، صرنا نقرأ عن فيروس يعزل الصين أو يحاصرها: دول تُجلِى رعاياها، وتنصح مواطنيها بعدم التوجه إلى الصين؛ شركات طيران تلغى رحلاتها، وحديث متزايد عن الأثمان الباهظة لظهور الوباء، وانعكاساته على الاقتصاد الصينى وأسعار الطاقة والتبادل التجارى. فى غضون أسابيع فقط، اهتزت الصورة التى أنفقت الصين عقودا فى بنائها أو استحقاقها.
تبدو الدول قوية مسلحة حتى الأسنان، تبدو شبيهة بالقلاع، ثم يأتى عدوٌ غير متوقع فيكشف هشاشتَها، فتضطر إلى رصد مبالغ هائلة لاحتواء الوباء وكشف أسراره، والتغلب على ذيوله، وتنشيط قطاعها الصحى وتحديثه وتسليحه ضد المفاجآت.
حدث مثير آخر. فى اليوم الأول من الشهر الحالى، استيقظ الأوروبيون ليكتشفوا أن السفينة البريطانية غادرت ليلا، واختارت أنْ تسبحَ منفردة مستعيدة هُويتَها بلا أقنعة، باحثة عن ازدهارها من خارج تعقيدات بروكسل. بعد إقامة دامت سبعة وأربعين عاما تحت السقف الأوروبى، ترجمت بريطانيا رغبتَها فى الطلاق إلى واقع ملموس. ما كان الأمر ليرتدى مثل هذه الأبعاد لو تعلق الأمر بدولة صغيرة ألقت بنفسها فى الحضن الأوروبى بفعل الانفجار اليوغوسلافى أو الانهيار السوفيتي؛ إننا نتحدث عن المملكة المتحدة وريثة الإمبراطورية التى لم تكن الشمس تغيب عن أراضيها.
وكما يحدث حين تخسر عائلة أحد أفرادها، تذكر الأوروبيون فى يوم الطلاق حجم خسارتهم: الدولة التى قدمت استقالتها من «الحلم الأوروبي» هى صاحبة خامس اقتصاد فى العالم، وصاحبة الميزانية الدفاعية الثانية فى أوروبا، وهى مركز مالى بالغ الأهمية. هذا من دون أن ننسى العضوية الدائمة فى مجلس الأمن، والموقع الطبيعى فى نادى الكبار، والخبرة الدبلوماسية المتراكمة فى أنحاء عدة من العالم.
الطلاق بعد زواج دام أكثر من أربعة عقود ليس قرارا بسيطا. يحتاج الأمر إلى مفاوضات شاقة لتوزيع إرث هذا التساكن الطويل تحت سقف واحد. يمكن القول إنَّ بوريس جونسون نفذ ما وعد البريطانيين به متسلحا بالتفويض القاطع الذى أعطوه لحزبه فى الانتخابات الأخيرة. وعلى عادة القرارات الكبرى، فإنَّ امتحان اليوم التالى هو الأهم. هل سيستطيع جونسون إبرام «صفقة القرن» مع صديقه دونالد ترمب؟ وهل أمريكا مستعدة لتقديم هذا النوع من الهدايا؟ واضح أن أوروبا أمام خيارات صعبة: السخاء فى العلاقة الجديدة مع بريطانيا قد يشجع دولا أخرى على القفز من السفينة التى يقودها 27 قبطانا؛ التشدد مع بريطانيا المغادرة قد يشكل خسارة لأوروبا، خصوصا إذا نجحت لندن فى السباحة منفردة. طبعا مع الالتفات إلى المشقات الداخلية التى سيواجهها جونسون مع الحلم الاسكتلندى الذى يكمن ثم يستيقظ.
وغداة مغادرة بريطانيا، كان هناك من يتحدث عن هشاشة هذا القرار، ودور وسائل التواصل الاجتماعى فى صناعة الرأى العام والنزعات الشعبوية وأزمات الهوية والخوف من المهاجرين. وتحدث آخرون عن هشاشة البنيان الأوروبى الذى ضاع بين التقلبات الأمريكية وصعود فلاديمير بوتين.
حدث ثالث سرق الأضواء فى منطقة الشرق الأوسط. بعد انتظار طويل، أعلن الرئيس الأمريكى «صفقة القرن». إنها مقاربة جديدة لإنهاء النزاع الفلسطينى ــ الإسرائيلى، استندت فى الأساس إلى القبول بالأمر الواقع الذى نجحت إسرائيل فى فرضه فى الأراضى التى احتلتها. وهكذا تمَّت مقاربة مواضيع شديدة الحساسية، مثل الدولة الفلسطينية وحدودها، ومستقبل القدس، وحق العودة، من خارج المرجعيات التى كانت فى السابق تشكل أساسا للتفاوض بين الفلسطينيين والإسرائيليين.
لم يكن بوسع أى متابع للموضوع الفلسطينى إلا تذكر حجم الفارق بين صورة التوقيع على «اتفاق أوسلو» فى البيت الأبيض فى 1993 والصورة الحالية. ففى الأولى، صافح إسحق رابين ياسر عرفات، وحمل الاتفاق توقيع الجانبين الإسرائيلى والفلسطينى. فى الصورة الجديدة، كان الفلسطينى غائبا. ولعل أول حجة يسوقها من يشددون على هشاشة الإعلان الجديد هو افتقار الصفقة إلى شريك فلسطينى، فى حين حملت الصورة القديمة توقيع زعيم مكتمل الشرعية اسمه ياسر عرفات. ولهذا السبب كان متوقعا أن يصدر عن وزراء الخارجية العرب فى أعقاب اجتماعهم بالقاهرة موقف رافض للصفقة، ودعوة إلى التمسك بالسلام العادل والمرجعيات الدولية. صحيح أن تطورات كثيرة حدثت فى العقدين الماضيين زادت هشاشة الموقف العربى، لكن المقاربة الجديدة للنزاع الفلسطيني ــ الإسرائيلى تذكر أيضا بهشاشة دور الشرعية الدولية، وعجزها المزمن عن تنفيذ قراراتها.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved