السلم نايلو في نايلو

داليا شمس
داليا شمس

آخر تحديث: السبت 4 فبراير 2023 - 9:40 م بتوقيت القاهرة

فى السنوات التى تلت النكسة مباشرة اشتهرت ليلى نظمى بأغنياتها الشعبية المستوحاة من الفلكلور ومنها «العتبة جزاز، والسلم نايلو فى نايلو»، وظهرت من وقتها تفسيرات مختلفة للمقصود بالكلمات، أضفى عليها البعض تأويلات غزلية مثيرة فذهبوا إلى أن «العتبة» تدل على جسد المرأة، و«جزاز» كناية عن صفائه ونعومته كما هو دارج فى الأوساط الشعبية، فى حين روى آخرون حكاية تاريخية واعتقدوا أنها أصل المعنى. قالوا إن حاكم الصعيد وناظر ديوان الجمارك سابقا، أحمد باشا طاهر، بنى عتبة لسرايته من الرخام الأزرق النادر، وكان السلم الذى يسبق العتبة من نوع آخر شفاف مثل الزجاج، فأطلق الناس على الميدان الموجود أمام قصره «ميدان العتبة الزرقا». ومع الوقت آلت الملكية للخديوى إسماعيل الذى هدم جزءا من السرايا لتوسعة الطريق وزراعة الأشجار فتحول إلى «ميدان العتبة الخضرا»، وظلت صورة «العتبة الجزاز والسلم النايلو» عالقة بالأذهان، خاصة وأن ورثة أحمد باشا طاهر رفعوا قضية ظلت خمسين عاما أمام المحاكم.
• • •
أما فى هذه الأيام فقد توحى فكرة «العتبة الجزاز والسلم النايلو» بهشاشة الوضع، فالسُلم الاجتماعى رخو، وصار الناس يتدحرجون من عليه فيجدون أنفسهم فى أسفل الدرج أو على الأقل ينزلقون طبقة أو طبقتين، ويهبط بهم السلم الاجتماعى بسرعة فائقة فى ظل تضخم الأسعار والأزمة الاقتصادية. يكتب البعض على صفحته بالفيسبوك أنه اضطر إلى الاستغناء عن بعض ما اعتاد استهلاكه أو تذكر النساء ضاحكات أنهن استبدلن أنواع مستحضرات تجميل مستوردة بأخرى محلية فى إشارة إلى «أنها نزلت طبقة»، بينما يسخر فريق آخر من عدم قدرته على السفر إلى الخارج لقضاء الإجازات كما اعتاد، ولا تخلو جلسة من الحديث حول جملة تتردد فى مدارس الأولاد، خاصة الأجنبية، «فلان لن يكون معنا فى المرحلة القادمة» ويُفهم ضمنيا منها أن أهله لم يصبحوا قادرين على دفع النفقات وسيتم تحويله إلى مدرسة أخرى. هذا الكلام ينطبق على الطبقة المتوسطة والعليا التى لديها ما تخسره، أما الأطراف الأضعف فلم يكن لديهم القليل كى يتنازلوا عنه.
الخوف من «النزول فى الطبقة» صار يتهدد الجميع وهو شعور مؤلم عرفه الناس خلال منعطفات تاريخية هامة وفترات التدهور الاقتصادى، عرفوه خلال سنوات الكساد الكبير فى ثلاثينيات القرن العشرين التى انخفض فيها متوسط دخل الفرد وارتفعت نسبة البطالة، وعرفوه لاحقا مع انحسار التصنيع فى بعض الدول وتحولها إلى الخدمات، ثم مع الأزمة المالية العالمية فى 2008 ودخول مرحلة الركود. يدرك أبناء الطبقة الوسطى بشرائحها المختلفة فى مثل هذه الأوقات أن ما ظنوه لسنوات حقوقا مكتسبة لم يعد كذلك وأن تعليمهم وشغلهم لن يوفرا لهم الفرص التى كانوا يحلمون بها، فالسُلم الاجتماعى مصنوع من النايلون، أى أملس ومنحدر من السهل التزحلق عليه.
• • •
هذا الخوف الذى يولد فى القلوب، رغم التكتم عليه أحيانا والرغبة فى التظاهر بعكسه، لا يختفى ولا يزول، فالكوابيس تلاحق الناس فى نومهم وتجعل الكثيرين يهبون فزعين، والأمهات يخفن من هذه الحالة ويحسبن لها ألف حساب. يتعمق الشعور بالاستياء، وبدلا من التنافس بين هؤلاء الذين يسعون إلى الصعود الاجتماعى والترقى، تظهر عدائية الأفراد خوفا من فقدانهم لمكانتهم ويكون التوجس كبيرا من الطبقات الأعلى والنخب. تزداد حالات الاكتئاب والانتحار وعدم الرضا وفقدان الأمل أو الحافز فى ظل تقلص الفرص، وهو ما ينعكس بالطبع على المجال السياسى فنشهد بزوغ تيارات اليمين وحصادها للأصوات فى الانتخابات، إذا ما وُجِدت، وارتفاع الأصوات التى تهاجم الأجانب وتستنكر مثلا انتشار أسياخ الشاورمة السورية فى الأسواق أو التضرر من الأغراب والمهاجرين، فمجرد رؤيتهم فى الفضاء العام تذكر السكان بهشاشة وضعهم وأنهم أيضا عُرضة للوقوع فى براثن عدم الاستقرار مثلهم مثل هؤلاء الوافدين، لأن «العتبة جزاز والسلم نايلو فى نايلو»، ولا جديد تحت الشمس أو القمر أو النجوم.
فى غمرة المشكلات اليومية وحمى الصراعات العالمية، يأتينى صوت ليلى نظمى من راديو الجيران، مرددة الأغنية. الكلمات تتدفق وتسيل ونحن نتابع انحدار السلم وحركات التزحلق عليه.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved