الفضيحة أكبر من أن يحملها عبد المعز وحده

بهي الدين حسن
بهي الدين حسن

آخر تحديث: الأحد 4 مارس 2012 - 9:00 ص بتوقيت القاهرة

 السيد المستشار رئيس المجلس الأعلى للقضاء

 

تحية واحترامًا..

 

تسلط وسائل الإعلام والمحللون السياسيون كل سهام النقد ــ عن حق ــ إلى المستشار عبدالمعز إبراهيم رئيس محكمة استئناف القاهرة، بسبب تدخله فى عمل هيئة المحكمة المسئولة عن قضية عمل المنظمات الأجنبية بدون ترخيص، والسماح بالسفر للمتهمين غير المصريين فيها. وبناء على ذلك تنحصر أغلبية المطالبات الموجهة لكم أو للجمعية العمومية لمحكمة الاستئناف، فى تحويل عبدالمعز إلى لجنة الصلاحية بالمجلس الأعلى للقضاء، أو سحب اختصاصاته، أو نقده وتوبيخه، بينما من الواضح بشكل ساطع أنه لم يكن سوى مجرد أداة فى يد سلطات وأجهزة أمنية عاتية، استطاعت فى خلال 24 ساعة أن تضع حدا للفصل فى قضية كان يجرى إدارتها لعدة شهور متواصلة، بواسطة ذات السلطات والأجهزة الأمنية، وباستخدام ذات الآليات القضائية مع اختلاف الأشخاص.

 

هذه السلطات والأجهزة الأمنية ــ التى تمنحها جريدة «الشروق» فى صفحتها الأولى اسم «جهات سيادية عليا» ــ هى التى أدارت هذه العملية مع الأطراف الأمريكية المعنية فى واشنطن وسفارتها فى القاهرة، ومع مكتب النائب العام، ومع الأجهزة والهيئات الأخطبوطية التى تدير مطار القاهرة، وأخيرا مع عبدالمعز، الذى اقتصر دوره فقط فى الضغط من أجل استصدار القرار القضائى المطلوب فى زمن قياسى، سواء من هيئة المحكمة المعنية، أو باستبدالها بأخرى عندما رفضت الأولى.

 

هذه السلطات والأجهزة الأمنية هى ذاتها التى أدارت الحملة الإعلامية والأمنية ضد منظمات المجتمع المدنى لسبعة شهور متصلة، واقتصر دور عبدالمعز فيها على منح الغطاء القانونى المناسب للمستشارين الذين أعلن أنه عينهم، ولكن وزير العدل السابق صرح مؤخرا بأنه ــ خلافا للقانون ــ هو الذى عينهم. أيا كان من عينهم، فهو قد اغتصب سلطة الجمعية العمومية لمحكمة الاستئناف ــ وفقا لما صرح به المستشار هشام جنينة رئيس محكمة الاستئناف ــ وبالتالى يتضح مدى فساد القول بأن التحقيقات أدارها قضاة مستقلون.

 

غير أن ما نشر فى الصحف ومواقع الإنترنت عن التاريخ الوظيفى لهؤلاء القضاة، يثير تساؤلات جادة عما إذا كانوا قد أداروا تحقيقات مستقلة ونزيهة تستهدف وجه الحقيقة والعدالة، أم أنهم كانوا أداة لذات الأجهزة، التى أدارت المشاهد الأخيرة، بالتنسيق مع عبدالمعز.

 

إن من يراجع الملف الإعلامى لهذه القضية منذ جرى تدشينها فى سبتمبر الماضى، سيلاحظ أن المحاكمة والتحقيقات الفعلية، كانت تجرى فى وسائل الإعلام الحكومية والصفراء، بينما كانت التحقيقات القضائية الفعلية مجرد وسيلة لإمداد وسائل الإعلام بمعلومات مبتورة أو غير حقيقية، من خلال عملية تسريب منهجى منظم للمعلومات التى أغلبها غير صحيح، أو مختلق، أو منتزع من سياقه، أو غير مكتمل، ولكنها تنسب دائما إما لقضاة التحقيق أو لمصادر قضائية دون تكذيب لاحق. وعندما انعقدت الجلسة الأولى للمحاكمة فى 26 فبراير، كانت الشكوى الرئيسية للمحامين، هى أن المتهمين المعنيين الرئيسيين بالقضية ومحاموهم لم يطلعوا على ورقة من ملف القضية، الذى كان يجرى تسريبه يوميا لوسائل الإعلام.

 

لتحقيق الأهداف السياسية «للأطراف السيادية» التى خططت لهذه القضية، كان من الضرورى تضخيمها بطريقة تلهب مشاعر الرأى العام لأقصى درجة، ولذلك جرى تقديمها فى مؤتمر صحفى باعتبارها قضية تهديد للأمن القومى ووحدة البلاد. ولكن عندما قدمها قضاة التحقيق للمحكمة هبطوا بها إلى مشكلة مزاولة نشاط بدون ترخيص، حتى إن نجاد البرعى محامى المتهمين صرح للصحفيين فى المحكمة، بأنها أشبه بمخالفات «إنشاء مبان بدون ترخيص». بينما قال عبدالمعز إنها جنحة أقصى عقوبة لها 300 جنيه غرامة. وقال أحد قضاة التحقيق لاحقا عن الخريطة التى كانت ركيزة الادعاء بالتخطيط لتقسيم مصر! «إنها خريطة عادية، وهى ليست محل جريمة أو اتهام، ولم نعثر على تقارير تدعو لتقسيم مصر»، ولكن الحملة الإعلامية كانت قد أثمرت وحققت أهدافها بالفعل.

 

السيد رئيس المجلس الأعلى للقضاء..

 

بعد هذه الفضيحة، يتضح أكثر من أى وقت مضى لماذا قاومت كل العهود تمتع القضاء بالاستقلال، ويتبين بصورة أوضح، لماذا امتنع المجلس العسكرى عن النظر فى مشروع القانون، الذى قدمتموه ليكفل استقلال القضاء. أعرف أنكم تعتبرون هذا المشروع هو هدفكم الأسمى خلال الشهور المقبلة، باعتباره الكفيل بوضع نهاية لتلاعب السلطات والأجهزة فى كل العهود بالقضاة والمؤسسة القضائية. ولكن إلى أن يصدر البرلمان هذا المشروع فى صورة قانون، من الضرورى القيام بمحاسبة صارمة لكل من لطخوا وجه القضاء على هذا النحو المشين.

 

لقد بادرتم مؤخرا بتوجيه مناشدة علنية للقضاة للتوقف عن «التعليق على أى شأن قضائى متداول فى وسائل الإعلام»، بعد التصريحات المتضاربة بين المستشارين عبدالمعز وشكرى. ولكن اسمحوا لى أن أقول إن مناشدتكم جاءت متأخرة. فلو كان المجلس الأعلى للقضاء قد تدخل منذ البداية لوقف التسريب المنهجى للإعلام لمحتويات هذه القضية، بالمخالفة لقرارات وتوجيهات المجلس الأعلى للقضاء منذ عدة عقود، ربما ما كانت القضية انحدرت لهذا الدرك المؤسف. إن كل الإجراءات التى اتبعت فى هذه القضية، بالمخالفة للمادة 75 من قانون الإجراءات الجنائية، والمادتين 187و193 من قانون العقوبات، وتعليمات وقرارات المجلس الأعلى للقضاء المتوالية منذ أكثر من 15 عاما، لابد أن تخضع للمحاسبة والتقييم والتقويم، وليس فقط ما حدث فى المشهد الأخير منها.

 

 لقد كانت هذه القضية من أول لحظة مباراة سياسية، جرى فيها امتطاء آليات قضائية وقانونية وإعلامية على أوسع نطاق، وعندما قررت الأطراف «السيادية» أن تضع نهاية لهذه المرحلة منها، فإنها استخدمت ذات الآليات القضائية والقانونية، ولكن المستشار محمود شكرى أفسد سيناريو مشهدها الأخير، ذلك لأنها لم تجد من يفضحها فى البداية.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved