السفيرة تحب الفراولة ونحن نريد العيش

وائل جمال
وائل جمال

آخر تحديث: الإثنين 4 مارس 2013 - 8:00 ص بتوقيت القاهرة

تقف السفيرة الأمريكية آن باترسون فى صالة قرية البضائع بمطار القاهرة فى الاحتفال بفتح السوق الأمريكية أمام الفراولة المصرية. تمد يدها لتقضم ثمرة حمراء بتلذذ أمام العدسات، بينما تضع صفحة السفارة الأمريكية على موقع فيسبوك أغنية الريس متقال «الفراولة بتاع الفراولة».

 

المشهد السابق ليس مشهدا تمثيليا ساخرا من برنامج البرنامج، أو من قفشات «آساحبى» وإنما ما حدث بالفعل الأسبوع الماضى بعد أن قررت واشنطن فتح السوق الأمريكية أمام الفراولة المصرية. وبهذه المناسبة لم تنس باترسون أن تقول إن الولايات المتحدة الأمريكية ملتزمة بمواصلة العمل مع مصر لزيادة الفرص المتاحة للصادرات المصرية بالدخول للأسواق الأمريكية، موضحة أن زيادة حجم التجارة بين البلدين «عنصر أساسى فى زيادة النمو الاقتصادى، وفرص العمل فى مصر»، إذا أن تصدير أول شحنة فراولة للسوق الأمريكية من شأنه أن يؤدى إلى فتح أسواق جديدة للفواكه المصرية. وهكذا تلخص هذه الفاكهة، التى تسمى أيضا الفريز أو التوت الأرضى، فى الحقيقة مأزق السياسة الاقتصادية المصرية برمته. بل ربما وضعية السياسة المصرية فى عمومها، والمتواصلة معنا بعد سقوط مبارك.

 

عصر الفراولة

 

مصر هى رابع أكبر منتج للفراولة فى العالم، وتصدر ما قيمته ٥٩ مليون دولار سنويا مما يجعلها من أهم مصدرى هذه الفاكهة عالميا. وقد زادت، مع هذه «الآفاق المتسعة»، المساحة المزروعة بهذه الفاكهة خلال السنوات الماضية، فى استجابة مباشرة لتوجهات سياسة زراعية بدأت منذ منتصف الثمانينيات على يد وزير الزراعة الأقرب لنظام مبارك: يوسف والى. قد تكون المساحة المزروعة بالفراولة ليست كبيرة. لكنها جزء من ذلك التوجه الذى يعلى قيمة الأرباح المحددة من قبل السوق العالمية ويعطى الأولوية للتصدير على استهلاك المصريين واحتياجاتهم. وهو توجه أضاف لحياتنا الكانتالوب أيضا وجعلنا نصدر مياه الرى الثمينة فى بعض السنوات عبر زراعة مساحات واسعة بالأرز بغرض تصديره نتيجة ارتفاع أسعاره العالمية.

 

هذه البوصلة أدت لدرجة اعتمادية هائلة على الخارج فيما يتعلق بالغذاء والحبوب. ويخبرنا برنامج الغذاء العالمى فى تقرير له فى سبتمبر ٢٠١٢ عن مصر أن اعتمادنا على واردات الحبوب من الخارج ارتفع من ٣٨٪ عام ٢٠٠٦/٢٠٠٧ إلى ٤٥٪ عام ٢٠١١/٢٠١٢، ومن ٤٦٪ إلى ٥٦٪ بالنسبة للقمح فى نفس الفترة. وقد أدت هذه الاعتمادية إلى زيادة معدلات التأثر بأسعار الحبوب العالمية وعلى رأسها القمح خصوصا مع أزمة أسعار الحبوب فى ٢٠٠٧ و٢٠٠٨. كما تؤدى هذه الاعتمادية إلى ممارسة ضغط هائل على الجنيه وعلى عجز الموازنة فيما يتعلق ببنود دعم القمح. ناهيك عن الصدمة التضخمية التى وصلت بمعدلاته إلى ٢٤٪ فى ٢٠٠٨ بسبب الأزمة، وهى صدمة ضربت مستويات معيشة فقراء المصريين عموما فى مقتل.

 

أما الركن الثانى للسياسة الزراعية التى تنحو بوصلتها فى اتجاه الربح والسوق العالمية فقد كان قانون الإيجارات الزراعية فى ١٩٩٦. يقول الأكاديمى التونسى حبيب عايب فى دراسة هامة بعنوان «تهميش صغار الفلاحين فى مصر وتونس»، وهى منشورة فى كتاب صادر عن دار العين بعنوان «التهميش والمهمشون فى مصر والشرق الأوسط» العام الماضى، إن المنافسة المتفاقمة غير العادلة على الموارد الزراعية، الأرض والماء، والآليات المختلفة للتجريد من الملكية المفروضة على صغار الفلاحين فى مصر وفى تونس معا، أدت جميعا لتهميش الفلاحين فى ريفى البلدين. يرصد عايب أنه فى ٢٠١٠ وبعد سنوات من تطبيق قانون الإيجارات الزراعية بغرض تجميع الأراضى المفتتة لحساب المزارع الكبيرة، صار ٤٣.٥٪ من الفلاحين لا تتجاوز حيازة كل منهم فدانا واحدا من الأرض، و٩٠٪ من الفلاحين يحوزون نصف الأرض المنزرعة بمعدل أقل من ٥ أفدنة، بينما صار ال١٠٪ الباقية تستغل نصف الأراضى، و٣٪ فقط من المزارعين الكبار يتحكمون فى ٣٣.٥٪ من الأرض. قضى قانون الإيجارات الزراعية على فئة المؤجرين تماما (حوالى مليون مزارع). “وبينت تحقيقات عديدة أن ٨٠٪ تقريبا من الفلاحين يعملون نصف الوقت أو كل الوقت خارج أراضيهم إما مع فلاحين أكبر أو فى إدارات أو خدمات أو بالتجارة، أو حتى من خلال الهجرة للمدينة أو للخارج»، بحسب الدراسة. بل إن سياسة التجميع لحساب رأس المال الكبير أدت إلى المزيد من التفتت فى الملكيات الصغيرة المتقلصة فى حجمها الكلى دافعة الفلاحين الصغار أكثر وأكثر فى بئر الفقر والعوز، بينما تعقد الاتفاقات وتدخل مصر المباحثات دفاعا عن حفنة من المصدرين ومزارعهم الكبيرة. علا شأن التجارة للربح على إطعام الناس فصرنا نصدر الفراولة والعنب ويكسب المصدرون ونستورد القمح والفول ويجوع المصريون.

 

لا نحتاج «كويزا» للفراولة؟

 

فى السابع من يناير الماضى طمأننا شريف البلتاجى رئيس المجلس التصديرى للحاصلات الزراعية فى تصريحات صحفية أن مصر «تفوقت على إسرائيل زراعيا فى تصدير الفراولة والعنب والبرتقال لدرجة أن أشهر سلسلة تجارية إسرائيلية فى أوروبا تشترى الحاصلات الزراعية المصرية»، غير ناسٍ أن يشير إلى أن «إسرائيل تتفوق علينا فى إنتاج البذور والزهور”. نفى البلتاجى أن تكون هناك حاجة للكويز فى القطاع لضمان دخول السوق الأمريكية. وهو محق كما أثبتت التطورات: نحن لا نحتاج الكويز من أجل الفراولة.

 

هل تذوقت الشارون يوما؟ هل اشتريت لزوجتك وأطفالك الدوريت؟ أو ربما العوفيرا؟ قد تكون فعلت إذ أن هذه الأصناف الإسرائيلية من الفراولة تزرع بالفعل فى بلادنا. لا حاجة إذا للأمريكيين لفرض شروط المكون الإسرائيلى إذ أنه موجود ومنذ سنوات فى زراعتنا، جنبا إلى جنب مع تدخل أمريكى مباشر وصل لحد تسريب زراعة المحاصيل المعدلة وراثيا التى تروج لها أمريكا وعليها جدل عالمى هائل ولفظتها الهند. وهكذا تكمل الفراولة عناصر النموذج المفروض على زراعتنا.

 

الفراولة والعدالة الاجتماعية

 

قليلون يعلمون أن مساهمة قطاع الزراعة فى النمو الاقتصادى وصلت فى النصف الأول من العام المالى الحالى إلى نحو ٢٠٪ مقارنة ب ١١٪ للسياحة بعد أن توجه الفلاحون لزراعة القمح والقطن. لكن الزراعة لا تحتل ١٠٪ من الجدل والاهتمام الذى تحوزه الأخيرة. على الرغم من أن إصلاح الزراعة يؤثر مباشرة على إعادة توزيع الدخل لحساب الفقراء، ويوفر مليارات الدولارات على الاحتياطى وخزينة الدولة. بل أثر فى صيانة الاستقلال الوطنى المغدور والمهدور. إذ كيف يمكن لمصر الثورة أن تسير فى طريقها مصانة من تدخل أمريكى وربما إسرائيلى وهى تعتمد فى ٥٦٪ من قمحها على قمح مستورد، وهى سمة ليست قاصرة على القمح وحده؟ فى مواجهة ذلك يقتصر برنامج الانطلاق الاقتصادى الذى حضرته الحكومة المعينة من الرئيس مرسى، والمقدم لصندوق النقد، على إجراءات زراعية تبقى على نفس الإطار والسياسة الموروثة، بل وتحتفل بتصدير الفراولة لأمريكا، مكتفية برتوش تجميلية من نوعية توفير السولار للمزارعين و«ولله الحمد» تأجيل ضريبة الأطيان الزراعية. للعلم البرنامج اقتصر على ٤ إجراءات فقط.

 

•••

 

لا عدالة اجتماعية بدون القمح وبدون ثورة فى الزراعة المصرية لصالح المزارعين الصغار، إذ لا ضمان لاستقلالية وديمقراطية قرار ثورتنا دون ضمان السيادة الغذائية.

 

شكرا سعادة السفيرة وللسادة فى السفارة، نحب الريس متقال لكننا قد نفضل أغنية أخرى: القمح الليلة ليلة عيده.. يا رب تبارك وتزيده.. لولى ومشبك على عوده.. والدنيا وجودها من جوده.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved