قوة اللامبالاة

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الأربعاء 4 مارس 2015 - 9:00 ص بتوقيت القاهرة

أقرأ ما يكتبون وأسمع ما يقولون. كلماتهم طلقات رصاص أو سكاكين ذبح وسلخ. التحذير، وليس التكفير، نغمتهم المفضلة، لا يختلفون عن أهل داعش، وإن ادعوا الكره لهم. يذبحون كما يذبح أهل داعش خصومهم، يذبحون بالقلم وليس السكين، وكأهل داعش مغرمون بشاشة التليفزيون، يمارسون الذبح أمام كاميراتها وميكروفاناتها.

•••

الداعشيون بالقلم واللسان كالداعشيين بالسكين فريق متطرف من تيار واسع. الداعشيون قوم أغلبهم عاجز أو غير راغب فى التحكم فى عواطفه. دائما شديدو الانفعال سريعو الإثارة. العنف ليس بالضرورة من شيم القاعدة العظمى لهذا التيار، ولكنه شرط من شروط الانضمام للطلائع، بخاصة هؤلاء الذين حملوا رسالة الجهاد، الجهاد الدينى أو الجهاد السياسى، أو الذين اختاروا الجهاد المختلط، جهاد الدين السياسى.

•••

تيار آخر تعرفه مجتمعات عديدة، ونعرفه فى مصر جيدا. أناس لا يتحمسون، وبمعنى أدق لا يبالون. نتهمهم بالبرود وهم ليسوا بطبيعتهم باردين، فاللامبالاة قرار اتخذوه بإرادة حرة ورغبة حقيقية. وبعد تدريب طويل. الأصل فى الانسان أنه يولد مبال. ما هو إلا يوم ويهتم وشهر وينفعل وبعدها يشارك ويغضب ويفرح ويحزن.

•••

إنسان غير مبال، هو إنسان تعلم كيف يكبت غرائزه. إنسان استطاع ترويض عواطفه وتشذيب انفعالاته. لن أخلط كما يخلط غيرى بين رفض الانغماس والسلبية. ليس كل غير مبال إنسان سلبى. أحيانا يبدو لنا الشخص مغرورا ومتعاليا إذا كان لا يتدخل فيما لا يعنيه، ويرفض السير فى كل ركاب، ولا يهتم بتوافه الأمور والأفكار الغبية، ويتحكم فى انفعالاته وعواطفه. فلا يبالغ فى الغضب ولا يكذب فى الحب ولا يهلل إذا استحسن ولا يصرخ إذا أخطأ غيره، ولا يعجب بقائد أو زعيم إلى حد الوله ولا يمقته إلى حد الكره.

•••

مرات عديدة شعرت برغبة فى أن أهاتف خبيرا يحلل أمامى على الشاشة تطورات علاقة بين مصر ودولة أخرى. أهاتفه راجيا منه أن يتكرم بخلع عواطفه عند باب الاستوديو قبل دخوله، وأن لا يجلس على مقعده أمام الكاميرا إلا وقد استعد بالمعلومة الموثقة والخبر اليقين، وأن يتعهد بعدم رفع صوته أعلى من صوت محدثه، وأن يراعى أن بين المشاهدين من تخدش حياءه كلمة أو إشارة جارحة.
هذا الخبير يضر بلاده وزعيمها وشعبها ضررا جسيما عندما يوظف عواطفه قبل أن يشغل عقله. حدث كثيرا أن دفعت الحكومة المصرية ثمنا باهظا من أرصدتها السياسية وهى نادرة فعلا، للتعويض عن الآثار الضارة لانغماس وحماسة بعض محلليها وخبرائها. مثال على هذا الثمن الباهظ الاعتذار الذى تضمنه حديث رئيس الدولة مع تليفزيون العربية عندما حاول تبرير الحملات الإعلامية المصرية ضد دولة أو أخرى.

•••

جرى العرف أن ننعت شخصا بأنه رزين لأنه فى العادة هادئ الطبع، لا ينفعل ولا يتخذ قراراته تحت ضغط العواطف والمؤثرات الشخصية. هذا الشخص يتمتع عادة بحرية أوفر فى الحياة لا يتمتع بها الانفعاليون والانغماسيون وذوو العواطف الملتهبة دائما. يستطيع رؤية الأمور فى مواطنها قبل الحكم عليها، ويقدر على توفير وقت للحكم واتخاذ قرار كان يمكن أن يضيع لو انغمس فى الاهتمام بأشياء غبية أو تافهة أو تخدم أهدافا لا تستحق هذا الوقت. ولما كان هذا الإنسان مدربا على إخفاء مشاعره، فهو قادر على أن يحتفظ بالفرح فى داخله فترة أطول، وقادر فى الوقت نفسه على تحديد مدة الحزن ونوعه.

•••

قرأنا عن «الرواقيين»، أى حملة الفكر «الرواقى » الذى ظهر فى العصر الإغريقى على يد العالم زينو. zeno وكان من أشهرهم الإمبراطور ماركوس أوريليوس. كنا فى شبابنا نجد غرابة فى أن يكون زعيم سياسى أو حاكم من القياصرة والملوك ورؤساء واحدا من أنصار وممارسى عقيدة اللامبالاة وعدم الانغماس ولم أفهم إلا أخيرا أهمية أن يكون الحاكم رائق البال والمزاج هادئ الطبع، رزينا بالمعنى "الرواقى".
عدت إلى ما كتبه مؤرخ بريطانى عن الإمبراطور أوريليوس باحثا عن ما يمكن أن يبرر اعتناقه هذه الفلسفة التى تبدو فى ظاهرها متناقضة مع نوع وطبيعة عمل من يمارس السياسة والحكم والقيادة العسكرية. اكتشفت ما يلى.

•••

كان أوريليوس مريضا بالقرحة. وآلامها كما نسمع شديدة. وكان فى الوقت نفسه يعيش حياة عائلية تعيسة، فزوجته لم تكن وفية له، فضلا عن أنهما أنجبا ستة عشر طفلا، لم يعش منهم سوى ستة. أضف إلى هذه التعاسة مسئولية إدارة شئون إمبراطوريته، خاصة وأن هذه الإمبراطورية كانت تعيش فى عهده مشاقا متنوعة بسبب تعدد الانتفاضات على حدودها، مما دفع الإمبراطور إلى أن يتولى بنفسه قيادة عدد كبير من حملات التأديب ضدها.

يذكر التاريخ أيضا أن حاكم أهم مقاطعات الإمبراطورية، وهى سوريا، تمرد وكان مقربا من الإمبراطور. يذكر أيضا أن كثيرين من بين أعوان الإمبراطور لم يكونوا مطيعين أو مهذبين، بل كانوا بتصرفاتهم سببا فى استهجان الشعب لحكم أوريليوس. من ناحية أخرى اشتهرت سنوات حكم هذا الإمبراطور بتعدد الكوارث التى أصابت مختلف ولايات الإمبراطورية ومنها الطاعون والمجاعات والزلازل.

•••

يقول المؤرخ إن براعة أوريليوس فى مجال رسم الاستراتيجيات جعلته يستخدم "اللامبالاة" سلاحا يواجه به أيامه الصعبة. كان يستيقظ صباح كل يوم ليقول لنفسه، سوف أقابل اليوم أناسا يتدخلون فيما لا يعنيهم، أناسا ناكرين للجميل، عنيفين، فى طبعهم الخيانة، أناسا حقودين، كارهين لمواطنيهم......".

ما كان يمكن لحاكم بذكاء وحكمة أوريليوس أن ينجو بإمبراطوريته وبنظام حكمه لو أنه تخلى عن"رزانته" وأخضع إرادته لعواطفه وشهواته أو لثورات غضبه، أو لو استسلم لليأس. عرف ماركوس أوريليوس أن خضوع الحاكم لعواطفه وغرائزه كفيل بفشله، وأن الإنسان الكامل أخلاقيا وعقليا لا يسمح بسيطرة العاطفة حتى لا يخطئ فى التقييم والتحليل. هذا لا يعنى أن حياة الزعيم أو الإنسان الرزين تخلو من الفزع والخوف، فكلاهما موجود ولكن ضمن قيود ووعى كاملين، ومما يعنى أن عدم الانغماس لا يستدعى لا مبالاة مطلقة، كلاهما يجرى تطبيقه بانتقائية واعية. المحصلة فى النهاية قرار سليم.

•••

يلخص أحد الفلاسفة حكاية ماركوس أوريليوس وانتهاجه الرزانة واللامبالاة أسلوبا للحكم بقوله إنه كان يمكن لماركوس أن يهتم بكل صغيرة وكبيرة وكل ما هو مهم وغير مهم، ولكنه لم يهتم. أما "لو أنه اهتم لما استطاع أن يواجه هبات الرياح وعواصفها وهياج البحار والمحيطات وصعوبات الحكم وتقلب ولاءات مريديه والمحيطين به".

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved