تحرير قدرات العقل البشرى

العالم يفكر
العالم يفكر

آخر تحديث: الأربعاء 4 مارس 2020 - 9:20 م بتوقيت القاهرة

نشرت مؤسسة الفكر العربى مقالا للكاتبة «أميرة غنيم».. نعرض منه ما يلى.

أجرى أفلاطون على لسان سقراط قولته الشهيرة «المعرفة تذكّرٌ والجهل نسيان». وهى قولة مبنيَّة على مسلّمة مبدئيّة مفادها أنّ النفوس البشريّة خالدة، مدركة لجميع الحقائق المتأصّلة فيها، وقد تعلّمت كلّ شيء قبل حلولها فى الأجساد الجزئيّة.
ثمّ كانت الصدمة المُزلزِلة فى أوساط البحث العلميّ بظهور ما سمّاه عالِم الأعصاب الأمريكيّ بروس ميلّر «مُتلازِمة المَوهبة المُكتسَبة»، والمقصود بها طفرة مُفاجِئة فى القدرات الذهنيّة تظهر بفضلها مهارات ومَعارف جديدة لدى بعض الأشخاص المتقدّمين فى السنّ، وذلك بعد تعرّضهم إلى حوادث ارتجاج بالمخّ، أو إلى إصابات دماغيّة، وأمراض عقليّة أكثر خطورة.
***
كان ميلّر قد لاحَظ فى أثناء إدارته مَركز الذاكرة والشيخوخة فى جامعة كاليفورنيا، أنّ أحد المرضى المُصابين بالألزهايمر قد بدأ يهتمّ بصورة غير طبيعيّة بالرسم التشكيليّ. والغريب أنّ جمال لوحاته وتميّزها الفنيّ ظلَّ يتناسب طرديّا مع تعكُّر حالته العصبيّة واشتداد أعراض المرض العقليّ. ثمّ بدأ ميلّر ينتبه إلى أنّ نزلاء آخرين فى المَركز مُصابون بأمراض عقليّة مختلف،ة قد أخذهم هَوسٌ عجيب بمجالاتٍ لم تكُن من ضمن هواياتهم بشهادة أهاليهم، والأغرب أنّهم طوَّروا مهارات فائقة غير مسبوقة كلّما تدهورت حالتهم العصبيّة وتعطّلت فى أدمغتهم المَواطِن المسئولة عن اللّغة وعن المُعالَجة العرفانيّة العليا والتعامل الاجتماعيّ.
وفى المقابل، سُجّلت وقائع غريبة ساعدت ميلّر على صَوغ فرضيّته الجديدة. فهذا جرّاح عظام لم يلمس فى حياته آلة موسيقيّة، تُصيبه صاعقة فى يومٍ مُمطر فتسبّب له أضرارا عصبيّة، وما إن يتماثل للشفاء حتّى يكتشف فى نفسه ولعا بالموسيقى وقدرة عجيبة على التأليف الموسيقيّ. وهذا موظّف فى شركة تسويق، يرتطم رأسه بقعر حوض سباحة، فيفقد وعيه، وينام أربعة أيّام متواصلة قبل أن يستيقظ بصممٍ خفيف تُصاحِبه مهارة عجيبة فى العزف على آلة البيانو. وهذا بائع أثاث يشجّ رأسه قاطعُ طريق، فإذا به يكتسب بعد تعافيه مهارة فائقة فى رسْم مَشاهِد هندسيّة معقّدة وفى حلّ مشكلات رياضيّة. حوالى ثلاثين حالة مسجَّلة حول العالَم أحصاها الباحث ميلّر، جميعها تشهد بإمكانيّة أن تظهر على المرء فجأة مَعارِف لم يتعلّمها سابقا بمجرّد أن يُصاب دماغه بضررٍ مّا. وما من شكّ فى أنّ هذه الحالات تقوّى بشدّة فرضيّة المَعرفة الفطريّة الكامِنة. معرفةٌ لا تُعرَف لها حدودٌ يجهّز بها العقل البشريّ قبليّا بحيث تتعالى عن أنشطة التعلّم والاكتساب.
***

لاحَظ ميلّر، بفضل تقنيّاتٍ متطوّرةٍ فى التصوير المقطعيّ للدماغ بالأشعّة، أنّ ظهور «متلازمة المَوهبة المُكتسَبة» لدى نزلاء المركز من المرضى العقليّين تزامنَ مع تعطُّل وظائف الفصّ الصدغيّ الأيسر من الدماغ، وصاحَبه على وجه الدقّة تدمير أجزاءٍ محدَّدة من المخّ يربطها عُلماء الأعصاب فى العادة بالتفكير المنطقيّ والتواصل اللّغويّ والفهْم. ولمّا كان منَ المسلّم به عندهم أنّ الفصّ الأيسر من الدماغ يتحكّم تحكّما مطلقا بالفصّ الأيمن، وأنّ الفصّ الأيمن هو المسئول عن القدرات الإبداعيّة، فقد افترض ميلّر أنّ الأجزاء المعطّلة من الفصّ الأيسر بسبب المرض تفقد سيطرتها الطبيعيّة التقليديّة على الفصّ الأيمن، فيتحرّر عندئذٍ من قوّة الكبح التى تمارسُها عليه فى الحالات العاديّة دوائر الفصّ الأيسر لأغراضٍ اقتصاديّة فى المُعالَجة العرفانيّة تقتضيها الحاجة فى النفاذ إلى المعلومة بأقصر السبل أو فى اتّخاذ القرار بأقصى سرعة.
تفصيل ذلك أنّ الذكاء البشريّ مكيَّف على نحو طبيعيّ ليشتغل وفقا لنظامٍ انتهازيّ يضع حواجز أمام المعلومات التى يعتبرها هامشيّة أو ضعيفة الأهميّة. ويتمّ ذلك بواسطة آليّة عصبيّة تتيح التفكير وفقا لقوالب جاهزة وذات حدود متفاصلة. هذه القوالب التصنيفيّة هى التى تجعل الذهنَ يتمثّل الشجرة على أنّها شجرة بدلا من أن يرى آلاف الأوراق، ومئات الثمار، وعشرات الأغصان التى تكوّنها. وهى التى تسمح له أيضا بأن يرى هذه الأسطر متكوّنة من كلماتٍ بدلا من أن يرى عشرات الآلاف من النقاط الموضوعة فوق الحروف.
يعتمد الفصّ الدماغيّ الأيسر على «المَقْوَلة» (Categorization)، أى على تبويب الموجودات العقليّة من ضمن أقسامٍ وأصنافٍ معروفة سلفا. ميزة المقْوَلة أنّها نشاطٌ تأليفيّ فى التعقّل يُمكِّن الذهنَ من التكهّن والاستباق، بما يضمن له اشتغالا جُمليّا سريعا وضعيف الكلفة من جهة المجهود العرفانيّ. وضمنَ نشاط المقوَلة يلعبُ الفصّ الأيسر دورَ المصفاة يضعها الوعى أمام السيل المدوّخ من المُثيرات الحسيّة التى يتعرّض إليها الذهن فى كلّ حين. غير أنّه فى حالة الإصابة الدماغيّة أو المرض العقليّ، تتوقّف تلك المصفاة عن لعب دَورها فتتعطّل قوّة الكبح مقابل اشتداد قوّة التحفيز وهو ما يفسّر ظهور متلازمة المَوهبة المُكتسَبة باعتبارها تحريرا لقدراتٍ كامنة مكبوحة يقع تحفيزها لأوّل مرّة.
***
يكفى أن يجد العلمُ طريقة لتحفيز القدرات العالِمة الكامِنة فينا حتّى يصبح لنا فى كلّ بيت موزارت ودافنشى ومحمود درويش وابن خلدون والخوارزمى.. وقد أغرت هذه الفكرة عالِم النَّفس الأستراليّ ألّان سيندر الذى حاول مع فريق من عُلماء الأعصاب أن ينتج مخبريّا متلازمة المَوهبة المُكتسَبة بالتدخّل على أدمغة سليمة لم تتضرّر من مرض أو حادث.

كان منطلق الفكرة المجنونة فرضيّة بسيطة وهى أنّ «مُتلازمة المَوهبة المُكتسَبة» ليست إلّا وجها آخر من «مُتلازِمة النطاسي» الكلاسيكيّة المعروفة عند حوالى 10% من الأطفال الذين يعانون من أعراض التوحّد أو من بعض أشكال التخلّف العقليّ غير العميق. فمن المعروف أنّ عددا كبيرا من هؤلاء الأطفال ذوى الاحتياجات الخصوصيّة يُظهرون فى سنّ مبكّرة، على الرّغم من محدوديّة قدراتهم التواصليّة والمنطقيّة والاجتماعيّة، مَوهبةً استثنائيّة فى مجالٍ ما بعينه، كما لو أنّ بعقولهم الغارقة فى محيطٍ من الصعوبات العرفانيّة «جزيرة للعبقريّة» على حدّ عبارة عالِم النَّفس دارولد تريفّير. وغالبا ما تحتضن تلك الجزيرة مهاراتٍ إبداعيّة متنوّعة كالرسم أو العزف أو الرقص، وقد يستوطنها أيضا الحساب الذهنيّ وأنواع الذاكرة الخارقة.
وبالمقارنة بين الاختبارات المُجراة على الأطفال المتوحّدين من ذوى القدرات الخارقة، وتلك التى أجريت على الكهول الذين ظهرت عليهم طفرة نبوغ مفاجئ بسبب مرض أو حادثٍ، نجمت نقطةُ شَبَهٍ لافتة. ففى الحالتَين، أَظهر التصوير المقطعيّ غيابا للنشاط العصبيّ فى الفصّ الدماغيّ الأيسر الأماميّ والصدغيّ. وهكذا افترض فريقٌ من العُلماء على رأسهم «سيندر» أنّ تحييد الفصّ الأيسر بتدخُّلٍ طبيّ كفيلٌ بتوفير الظروف المُلائمة لظهور «مُتلازمة المَوهبة المُكتسَبة»، ونجحوا سنة 2018 فى تجميع 28 متطوّعا لخَوض التجربة المُذهِلة.
***

عَرَضَ «سيندر» على المتطوّعين معضلة عجزَ عن حلّها المُختَبرون نفسيّا طيلة خمسين عاما. فقد طُلب منهم أن يربطوا بين 9 نقاط (باستخدام أربعة خطوط مستقيمة) صفّت ثلاثة ثلاثة على صفوف متوازية، بحيث يظهر من تصفيفها على تلك الهيئة شكلُ مربّع. وكان الشرط ألّا يرفعوا القلم فى أيّ مرحلة من مراحل الربط، وألّا يمرّوا من جديد على خطّ سبق رسمه. وبعد محاولات طويلة، وكما توقّع العُلماء، لم ينجح أحدٌ من المتطوّعين فى حلّ المعضلة.
بعد ذلك، استعملَ فريق العُلماء تقنيّة معروفة فى الطبّ العصبيّ تُستخدَم فى العادة لقياس حجم الضرر على أدمغة المُصابين بحوادث عصبيّة. تُسمّى هذه التقنيّة «التحفيز المغناطيسيّ المتكرّر العابِر للجمجمة. وتتمثّل فى إرسال شحنات مدروسة من التيّار الكهربائيّ تتفاعل مع كهرباء الدماغ الطبيعيّة وتتسبّب مؤقّتا، خلال التجربة، فى تجميد المنطقة الدماغيّة المُوافِقة للفصّ الدماغيّ الأيسر. كان من نتيجة ذلك أن تمكّن 40% من المُختبرين فى حلّ المعضلة الهندسيّة. وتفسير ذلك، بحسب ما جاء فى التقرير العلميّ للتجربة، أنّ تحييد مَواطن معلومة من الفصّ الأيسر أفسد اشتغاله الطبيعيّ كمصفاةٍ مُبرمِجة لردّ الفوضى وتنظيمها من ضمن مقولات جاهزة، وهكذا لم يعُد المُختبرون يلتقطون الشكل الهندسيّ للمربّع عند تعاملهم مع النقاط المصفوفة، فسهل عليهم الربط بينها إذ تحرّروا من قيد التمثّل الجاهز.

ولكن ماذا عن باقى المُختبرين الفاشلين وهُم أكثر من النصف؟ أليسَ فى عجزهم دليلٌ على كون الأدمغة الفرديّة لا تشتغل ضرورةً بطريقة موحّدة يُمكن التكهّن بها وتوجيهها؟ ثمّ كيفَ يُظنّ أنّ النجاح فى حلّ معضلة الربط مؤشّر على ظهور قدرة فائقة مُكتسَبة بفضل تدخّلٍ طبيّ على الفصّ الدماغيّ الأيسر؟ فهل الربط بين تسع نقاط، مهما صعُب الربط بينها، يُعادِلُ من حيث الإنجاز ما قام به المرضى أو مصابو الحوادث ممّن نبغوا فجأة فى الرسم أو الموسيقى أو الحساب؟ وهل يُمكن أن نأمل بعد هذا أن ينجح العِلم فى حلّ لغز المعرفة الأزليّ والحال أنّ الإنسان لا ينفكّ يدرس دماغه من خلال مقولاتٍ اصطنعها الدماغ لتعقُّل العالَم الخارجيّ لا لتعقُّل جوهر كيانه؟

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved