الاستثمار فى الرعاية الصحية

علاء غنام
علاء غنام

آخر تحديث: الخميس 4 أبريل 2019 - 9:35 م بتوقيت القاهرة

أشار تقرير حديث نسبيا لشركة استثمارات طبية (جونز لانج ﻻسال) إلى أن القاهرة بلغ عدد سكانها قرابة 23 مليون نسمة، وأن تحرير سعر الصرف جعلها جاذبة للمستثمر الأجنبى والمحلى فى الخدمات الطبية، وأنه وفق الإحصائيات المتاحة فهناك 3.5 سرير مستشفى لكل عشرة آﻻف نسمة أى ما يعادل قرابة 4600 سرير فى نحو 363 مستشفى خاص صغير ومتوسط وكبير، منها 500 سرير رعاية مركزة فقط! وأن القطاع الخاص الطبى بذلك أصبح يستحوذ فى القاهرة على قرابة 73% من المستشفيات الموجودة بها (ﻻحظ أن عدد الأسرة فى كل المستشفيات المملوكة للدولة تصل إلى قرابة 5000 سرير).

هذا نموذج لدراسات السوق الذى يقوم به المستثمرون الطبيون فى الخدمات الصحية الخاصة لإضاءة آفاق تطلعاتهم المستقبلية.

***

فى مفهوم اﻻستثمار فى الصحة عموما وفى الرعاية الصحية على وجه خاص، تلتبس الأمور على كثيرين ممن يروجون لفكرة وجود فجوة تمويلية فى الخدمات الصحية ترجع إلى ضعف الإنفاق العام على الخدمة الصحية من الموازنة العامة منذ عدة عقود؛ بسبب الأوضاع اﻻقتصادية الكلية وسلم الأولويات فى الدولة الذى يضع الصحة والرعاية الصحية فى المرتبة الرابعة أو الخامسة بعد الأمن والدفاع وغيرها من بنود الإنفاق الأخرى المهمة والحيوية للاستقرار.

ويروج أصحاب المدرسة النيوليبرالية فى اﻻقتصاد لضرورة غلق هذه الفجوة التمويلية عبر اﻻستثمار الخاص فى الخدمة الصحية بما يعطى انطباعا بأن أصحاب الأموال والمستثمرين سيقومون بإنشاء مستشفيات وعيادات خاصة ومعامل ومراكز أشعة وخلافه توفر تقديم الخدمات، وبطبيعة الحال ستكون بأجر محمل بكل نسب الأرباح الممكنة والتى تعظم بطبيعة الحال من استثمار هذه الأموال مقارنة بوضعها فى بنك من البنوك كودائع أو فى البورصة فى أحسن الأحوال.

وبهذا يبرز مفهوم الاستثمار فى اﻻقتصاد النيوليبرالى كهدف للربح على حساب من يستطيع من المرضى دفع فاتورة هذه الخدمات، وهنا يقومون بدور فى السوق فعلا بتوفير الخدمة بأجر محمل بالربح، ولكنهم فى واقع الحال لا يقومون بغلق الفجوة التمويلية أو بإتاحة فعلية للخدمة والرعاية الصحية، والإتاحة هنا تعنى سهولة الوصول الجغرافى والمالى للخدمة دون عوائق على الفئات الأفقر، فهذا لا يصبح من أهدافهم فى اﻻستثمار. فلا يمكن لمستثمر خاص مثلا الذهاب إلى حلايب وشلاتين أو سيوة لإنشاء مستشفى عالى التقنية ليتعامل مع مرضى فى أغلبهم يحتاجون إلى الدعم لمواصلة سبل الحياة الأساسية وليس العلاج المكلف الخاص.

من هنا يبرز تناقض أو معضلة مفهومهم للاستثمار فى الرعاية والخدمات الصحية وإسهامهم ــ من حيث ﻻ نريد ــ فى اتساع فجوة العدالة اﻻجتماعية وليس إغلاقها.
***

وفى المقابل هناك مفهوم آخر اجتماعى واقتصادى فى اﻻستثمار فى الصحة يبرز فى إنشاء نظام تأمين صحى وطنى شامل يتضمن صندوقا ماليا ضخما لتجميع وتوزيع مخاطر المرض المالية وتوفير موارد مالية مدروسة وفق دراسات اقتصادية إكتوارية: من اشتراكات القادرين كنسبة من إجمالى دخولهم، ومن نصيب مقدم من الخزانة العامة للدولة لغير القادرين كدعم، ومن مصادر أخرى مجتمعية تسمى رسوما مخصصة للصحة (EarMarked Taxes) على التبغ ومشتقاته وعلى الصناعات الملوثة والسيارات الفاخرة والطرق وخلافه بما يؤسس صندوقا ماليا (Risk Pool) قد يصل حجمه فى ملاءته المالية القصوى إلى قرابة 600 مليار جنيه مصرى من مصادره الثلاثة بحيث يحقق أهداف التنمية المستدامة فى 2030 التى تهدف إلى زيادة نصيب الفرد من الإنفاق الصحى من نحو 60 دولار سنويا كمتوسط إلى قرابة 600 دولار سنويا فى نهاية 2030.

وهذا استثمار هائل يستطيع تمويل الخدمات الصحية بمستوياتها الثلاثة لجميع المصريين ودون تمييز أو وصم أو صعوبات مالية تؤدى إلى مزيد من إفقار الفقراء.

وهذا الصندوق يستطيع إنعاش وتنظيم سوق الخدمات الصحية والطبية؛ لأنه سيشترى الخدمات من القطاعين العام والخاص فى شراكة بينهما بنفس المعايير من الجودة ووفق تسعير مقنن مدروس بحسابات تكلفة واقعية وتدخلات مدروسة بناء على الفرص البديلة للخدمة الأكفأ والأرخص دون صناعة ما يسمى بالطلب المزيف على الخدمة لصالح الربح فى التحاليل والأشعات والأدوية وخلافه من التكنولوجيا الطبية الحديثة التى أصبحت عالية التكلفة وهى علميا محلٌ لما يسمى (Health Technology Assessment HTA).

هذا هو اﻻستثمار العادل فى الصحة (إلى جانب توفير مياه شرب نقية وصرف صحى وخلافه من محددات الصحة) والذى سيساهم فى غلق فجوة التمويل وفجوة العدالة بين اﻻحتياج والمتوافر فى الخزانة العامة ومن ثم هذا النوع من اﻻستثمار فى الصحة سيساهم بنتائجه الأخيرة وأهدافه الكلية فى تحسين مؤشرات الحالة الصحية للمواطنين (معدلات الوفيات للرضع والأطفال ومعدلات وفيات الأمهات والحوامل وسنوات العمل المعيشة دون مرض أو عجز، وتخفيض العبء المالى للمرض على المواطنين وتكاليفه بالحد مما يسمى الإنفاق الذاتى المباشر من الجيب وأخيرا تحقيق رضاء المواطنين عن النظام الصحى وتحقيق الثقة فيه).

ذلك ما يحقق فى التحليل الأخير استثمارا صحيا تنمويا بالدرجة الأولى فالصحة ليست مجالا للتسليع وفق ما اتفق عليه دوليا ودستوريا لدينا بل هى حق واجب اﻻحترام والحماية لضمان ما يسمى بالإتاحة المنصفة التى تلخص مفهوم العدالة لتصبح مبررا لشرعية الدولة. وأما الدعوة للاستثمار اﻻحتكارى غير المنظم من القطاع الخاص الطبى أو الأجنبى ليدخل سوق الخدمات الطبية ويستولى على أغلب مستشفيات مدينة كبرى كالقاهرة مثلا بحيث يستحوذ عليها وعلى أسرتها التى قد تبلغ 7000 سرير قريبا ــ فأمر يهدد كل ما سعى إليه قانون التأمين الصحى الشامل حيث تستطيع هذه اﻻحتكارات فرض أسعارها على النظام والتفاوض عليها من موقع قوة لتحقيق ربحية كما قلنا تتجاوز ربحية اﻻستثمار البنكى، وهو ما يجعل النظام تحت رحمة عدم التوازن المالى كما يساهم فى دفعه لتحميل المواطنين مزيدا من الأعباء المالية مما يخل بالأهداف الأساسية بالتأمين الشامل الوطنى ليصبح مجرد تأمين شبه خاص لا يتحمله إلا الأغنياء كما أنه يحمل خزانة الدولة عبئا أكبر لدفع نصيب الفقراء أو غير القادرين وهذا بالفعل ما نحذر منه ومن مخاطره فى اللحظة الراهنة، حين نرى أن التجربة التى ستبدأ فى بورسعيد تدعو كبرى المستشفيات الخاصة لتشغيل وإدارة وتدريب طواقم المستشفيات العامة (دون مقابل كما أعلن) وهذا اتجاه قد لا نستطيع فهمه أو تفسيره إلا بأن القطاع الحكومى يسلم نفسه بالكامل للقطاع الخاص معتقدا أنه المنقذ لغلق فجوة التمويل والإدارة والتشغيل، وهذا هو ما يمكن أن يفهم على أنه بدايات لخصخصة غير مدروسة من داخل النظام العام بلا أدنى تجاوز وهذا ما نريد أن ننبه إليه وإلى عواقبه الحالية والمستقبلية على النظام الذى اتفق عليه من فترة تجاوزت السنوات العشر الأخيرة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved