عودة للإيمان بالإنسانية

جورج إسحق
جورج إسحق

آخر تحديث: السبت 4 أبريل 2020 - 9:10 م بتوقيت القاهرة

فى المحنة التى يعيشها العالم بسبب فيروس كورونا، سيتبدل العالم، وستظهر أفكار جديدة، وقد أجبر هذا الفيروس العالم على الإيمان بمبدأ المساواة، فلم يفرق بين ليبرالى أو يسارى أو مسيحى أو مسلم أو شيعى أو سنى، بل شمل كل شعوب الأرض، فـالتحيز لعقيدة معينة أو مبدأ معين أصبح ليس ذا موضوع، بل دعا أن لا يميز الإنسان أحدا عن الآخر بما يعتقد أو يؤمن، وسوف تسفر نتائج هذا الفيروس الخطير عن مبادئ جديدة وأفكار جديدة وحياة جديدة واقتصاد جديد، فالإيمان بالإنسانية إن لم يتحقق الآن فسوف يتحقق فى المستقبل، فالدعاء أن يشفى الله الناس من الفيروس لشعب معين أو ديانة معينة أو عقيدة معينة هو سخف وابتذال واستخدام للإيمان فى غير موضوعه، فكل البشر الآن تحت سيطرة فيروس كورونا.
ومن الناحية الاقتصادية، ستتضرر الإنسانية كلها، حيث أفادت منظمة التعاون الاقتصادى والتنمية أن الناتج المحلى العالمى سينمو بنسبة 1.5% فقط فى العام 2020 إذا انتشر الفيروس على نطاق أوسع، وتتوقع المنظمة أن الاقتصاد العالمى سينمو بنسبة 2.4% فى أحسن الأحوال بعد أن بلغ 3% فى العام الماضى، ولذلك نحن جزء من هذا العالم الذى ندعو لإيمانه بالإنسانية لأن الضرر سوف يعمنا جميعا.
أما من الناحية السياسية، تكبدت الصين خسائر فادحة ولكن بعد مظاهر التعافى سيفتح المجال لامتداد النفوذ الصينى وتوسعه، وستصبح الصين القوة الاقتصادية الأقوى فى العالم. أما خارج الصين فبعض الدول تفرض إجراءات قاسية كإغلاق الحدود وتضييق حركة التجارة والسفر منها وإليها، والضغوط على مواطنيها الموجودين فى الخارج، كما هو الحال مع إيران. فتحاول إيران أن تخرج من هذا المأزق عن طريق نفوذها الكبير فى العراق وسوريا لفتح منافذ لها رغم الضغوطات الشعبية المطالبة بإغلاق المنافذ البرية وتقليل حركة المسافرين إليها، وهذا سوف يؤدى إلى تقليل نفوذها فى المنطقة.
بإصابة أوروبا بهذا العدد الكبير من الإصابات والوفيات أصبح لفظ القارة العجوز ينطبق عليها.. خاصة أن عندهم عددا كبيرا من المهاجرين، الأمر الذى دعا أحزاب المعارضة فى أوروبا لفرض تقييد أكبر على دخول المهاجرين، وعلى سبيل المثال حزب الرابطة المعروف بمعاداته للاجئين والمهاجرين فى إيطاليا، وبالتالى عندما ظهرت دعوات إلى تقييد حرية الانتقال داخل القارة العجوز، ظهرت توجهات الأحزاب والمنظمات الوطنية اليمينية المعادية للاتحاد الأوروبى وفتح الحدود وحرية الحركة والانتقال بين بلدانها، ومنع اللاجئين الواصلين إلى أطراف أوروبا من الوصول إلى الدول المركزية فيها، وهذا يمثل ضغطا على الوحدة الأوروبية. وهذا كله فى مجال الآثار السياسية الناتجة عن فيروس كورونا.
***
فهل كل ذلك لا يدعونا إلى أن نتأمل حياتنا ونؤمن بإنسانيتنا ونعمل على منع التمييز وننخرط فى قلب المجتمعات ونتعلم منها! وفى وسط هذه المخاوف توجد بعض النقاط الإيجابية لانتشار هذا الفيروس ستؤثر على العالم كله، حيث انخفض التلوث فى الصين وشمال إيطاليا انخفاضا كبيرا بانخفاض غاز ثانى أكسيد النيتروجين فى ظل انخفاض النشاط الصناعى ورحلات السيارات، وفى نيويورك قال باحثون إن النتائج الأولية أظهرت أن أول أكسيد الكربون الذى ينبعث بشكل رئيسى من السيارات انخفض بنسبة 50% تقريبا مقارنة بالعام الماضى… وهل إلغاء شركات الطيران لرحلاتها بشكل جماعى سيساعد على خفض التلوث؟ وكذلك لاحظ سكان مدينة البندقية أن المياه التى عادة ما تكون عكرة أصبحت واضحة لدرجة أنه يمكن رؤية الأسماك فيها.
وكذلك يجب أن نوظف إنسانيتنا فى بعض النماذج التى حدثت فى العالم، فقد استطاع اثنان من مدينة نيويورك بتجميع 1300 متطوع خلال 72 ساعة لتقديم مواد البقالة والأدوية للمسنين والضعفاء فى المدينة، وكذلك فى استراليا ابتكروا ساعة للمسنين وذوى الإعاقة لفرصة التسوق بسلام، وبذلك ساعد الفيروس فى جعل العديد من المجتمعات حول العالم أكثر قربا لبعضها البعض.
***
ولتأكيد مفهوم الإنسانية لمن تحجرت قلوبهم وغيبت عقولهم بمفاهيم متخلفة، سوف تتغير هذه المفاهيم بعد نهاية هذه المحنة، وسوف تحدث مراجعات لكل المعتقدات السياسية والاجتماعية، ومراجعات فى الثقافة أيضا، سوف يحدث تغيير شامل لسياسات الدول والقادة والأنظمة السياسية والصحية وسوف تختفى الخطابات العنصرية والشعبوية، وتشوه العلاقة بين السلطة والفعل السياسى. وإلى من لا يدرك خطورة ما بعد المحنة، هناك تغير حتمى فى مفهوم الدولة القانونية والنظم السياسية الديمقراطية، وتغيير أيضا فى النظريات الاقتصادية وآليات السوق وقوانينها، كل هذا سوف يتغير إلى جانب ضعف منظمات الأمم المتحدة ودورها المتدنى فى إدارة هذه المحنة، وحدث ولا حرج عن جامعة الدول العربية فى دعم الدول الأكثر فقرا. وسوف تدرك الشعوب كيف تختار رؤساءها الواعدين بالخيال السياسى والرؤية المستقبلية ولن تستطيع دولة أن تغلق على نفسها وتعامل شعوبها بالقهر والاستبداد. وفى هذا المجال يجب أن نتأسى بما يحدث حولنا فى العالم إنسانيا وهو الإفراج عن كل المسجونين الذين أدلوا بآرائهم مخالفة لبعض آراء النظام، وهذا مطلب إنسانى نريد أن نراه فى مصر قريبا؛ حيث بدأت مصر خطوات فى هذا المجال؛ ونريد وننتظر المزيد. وقد أفرجت إيران عن نحو 85 ألف سجين بينهم سجناء سياسيون، وكذلك السودان ودول كثيرة نهجت هذا النهج، ونريد بالإفراج عن المسجونين السياسيين والمحبوسين احتياطيا فرصة لأن نتصدى جميعا لأخطار المحنة والاستفادة بالكفاءات الموجودة فى السجون. وسوف تزاح كل الأنظمة الفاشلة التى كشفتها محنة فيروس كورونا.
إن الإنسانية تطالبنا الآن فى دول العالم الثالث أن نعيد تركيبة الثقافة بحيث نؤمن بالإنسانية ودورها فى تطور الشعوب ورفاهيتها والعيش فى سلام دون تحيز أو تجبر أو تمييز، فهل تستمع الدول المتحاربة الآن وتدرك أن هذه الحروب ليس لها جدوى ونحن نواجه خطرا يهدد الإنسانية كلها بأمور نجهلها لكن نتوقعها؟! آمنوا بالإنسانية للخروج من هذا المأزق وادعوا لكل البشر بالسلامة لتخطى هذا الخطر دون تمييز.
عضو المجلس القومى لحقوق الإنسان
الاقتباس
إلى من لا يدرك خطورة ما بعد المحنة، هناك تغير حتمى فى مفهوم الدولة القانونية والنظم السياسية الديمقراطية، وتغيير أيضا فى النظريات الاقتصادية وآليات السوق وقوانينها، كل هذا سوف يتغير إلى جانب ضعف منظمات الأمم المتحدة ودورها المتدنى فى إدارة هذه المحنة، وحدث ولا حرج عن جامعة الدول العربية فى دعم الدول الأكثر فقرا.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved