كورونا ومماليك مصر الجديدة

محمد سعد عبدالحفيظ
محمد سعد عبدالحفيظ

آخر تحديث: السبت 4 أبريل 2020 - 9:20 م بتوقيت القاهرة

قبل نحو 700 عام داهم الطاعون مصر، فقتل منها خلقا كثيرا، حتى أضحت القاهرة «مدينة خالية مقفرة لا يوجد فى شوراعها مار، بحيث لا يمر الإنسان من باب زويلة إلى باب النصر، فلا يرى من يزاحمه لكثرة الموتى والاشتغال بهم»، بحسب ما روى المؤرخ تقى الدين المقريزى فى كتابه «السلوك لمعرفة دول الملوك».
ويكمل المقريزى وصفه للطامة التى أحاقت ببر مصر فيقول: «علت الأتربة الطرقات وتنكرت وجوه الناس، وامتلأت الأماكن بالصياح فلا تجد بيتا إلا وفيه صيحة، ولا تمر بشارع إلا وفيه عدة أموات، وصارت النعوش لكثرتها تصطدم والأموات تختلط، ويقال بلغت عدة الأموات فى يوم واحد عشرين ألفا، وأحصيت الجنائز بالقاهرة فقط فى شهرى شعبان ورمضان بتسعمائة ألف».
كان المماليك هم من يحكمون مصر فى تلك الفترة الكئيبة، وبدلا من أن يواجهوا الوباء الذى أصاب الأمة وينظموا حياة الناس حتى لا يتفشى الطاعون، اختار حكام المماليك واتباعهم الهروب من المسئولية، فهرب بعضهم بقيادة السلطان الناصر محمد بن قلاوون من القاهرة إلى القرى الخالية من الطاعون شمال المدينة، والبعض الآخر قرر الاعتصام بالقلعة ظنا منهم أنها ستعصمهم وتمنعهم من الاختلاط بالناس، ومع ذلك وصل إليهم الوباء وقضى على نصف من كان فى القلعة تقريبا.
فى أيامنا هذه، ومنذ أن حلت على البشرية، كارثة تفشى فيروس كورونا، اتخذت العديد من الدول ومنها مصر إجراءات احترازية للحد من انتشار الفيروس، فحدت من التجمعات وحظرت حركة المواطنين فى الشوارع، واستتبع ذلك تقليل كثافة العمال والموظفين بالشركات والمؤسسات والمصانع.
ومع سريان تلك الإجراءات لأقل من أسبوعين تقريبا، بدأ بعض «مماليك مصر الجديدة»، ممن يتم الترويج لهم باعتبارهم رجال أعمال واقتصاد، فى الجهر بعدم تحملهم قرارات الحكومة التى تقضى بتقليل الكثافات وارتفعت أصواتهم عن ضرورة عودة العمال والموظفين من صغار السن إلى أعمالهم، فأرصدة وثروات السادة الباشوات التى كونوها من أقوات الشعب ودمائه تأثرت بالدرجة التى أقلقتهم.
هؤلاء، الذين جمعوا ثرواتهم عبر استثمار فساد الحكومات السابقة على ثورة 25 يناير، والذى «وصل إلى الركب» بتعبير زكريا عزمى رئيس ديوان رئيس الجمهورية الأسبق، فاشتروا أراضى الدولة بأبخس الأسعار، وتحصلوا على مؤسسات ومصانع القطاع العام التى تمت خصخصتها، وحصلوا على الطاقة المدعومة، وأصبحوا فوق أى قواعد أو قرارات تفرضها الحكومة، فعلاقاتهم مع المؤسسات الدولية والشركات العابرة للقارات وفرت لهم نوعا من الحماية الأجنبية التى كانت مصر قد تخلصت منها منذ زمن.
خرج أحدهم قبل أيام مطالبا بأن «تقتصر إجراءات العزل على كبار السن وأصحاب الأمراض المزمنة فقط»، مشيرا إلى أن تدابير الحكومة لمواجهة الفيروس بدأت مبكرة جدا، فيما قررت شركة كبرى تعمل فى مجال التطوير العقارى تسريح عدد من الموظفين بعد إجبارهم على توقيع أوراق الاستقالة، وعندما هدد المفصولون باللجوء إلى القضاء، قيل لهم «روحوا ارفعوا قضايا علشان تاخدوا مستحقاتكم وأعلى ما فى خيلكم اركبوه».
هؤلاء ومن فى حكمهم من تجار الأزمات ومماليك مصر الجديدة الذين لا هم لهم إلا الحفاظ على أرقام أرصدتهم فى البنوك، تعاملوا مع الدولة المصرية على أنها بقرة يجب أن تحلب لهم كل يوم، حتى ولو جف ضرعها.
على مماليك مصر الجديدة، أن يتعلموا شيئا من تضحيات أصدقائهم من أغنياء العالم المتحضر الذين قرروا دعم البشرية وخصصوا من ثرواتهم المليارات لتوفير أجهزة تنفس صناعى فى المستشفيات، أو لدعم مشروعات البحث عن علاج ولقاح لهذا الوباء الذى لا يفرق بين غنى وفقير أو بين حاكم ومحكوم.
وعلى الحكومة التى بادرت واتخذت قرارات احترازية تحسبا للكارثة التى قد تحل علينا، أن تفرض قوانين الدولة على من كون ثرواته من دماء وعرق العمال، فكل من يثبت تسريحه لعامل أو عدم دفع رواتب موظفيه يحال فورا إلى محاكم عمالية تعقد جلسات عاجلة وتعمل بكل طاقتها فى تلك الظروف، وتنفذ أحكامها فورا، حتى لا تترك الشعب لقمة سائغة يلوكها هؤلاء.
حلت علينا التجربة جميعا، وكلنا فى مركب واحد، وعلى الجميع أن يتحمل مسئولياته ويجب أن تشمل التضحية الكل، فعندما يأتى الموت لن يفرق، ولن يأخذ أحد معه إلى القبر شيئا.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved