يكذبون ونكذب

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الأربعاء 4 مايو 2011 - 8:14 ص بتوقيت القاهرة

 ندعو أطفالنا إلى تجنب الكذب ثم نكذب عليهم. من البادئ ؟ قرأت ثم تأكدت أن الطفل الرضيع يكذب على أمه حين يتصرف كمن لم يرضع كفايته ليبقى فى أحضانها برهة إضافية. كان سباقا على أهله فى الكذب. ولكن سرعان ما يأتى دور الأهل حين تبدأ أسئلة الصغار تنهمر. أذكر أننا كنا نتناول الطعام على مائدة غداء تتوسطها بطة محمرة حين نظر طفل من بيننا إلى أمه يسألها إن كانت البطة سئلت عن رأيها فى أن تذبح وتسلق وتحمر. لجأت الأم إلى الأب ولم يكن أمامهما إلا أن يكذبا.

أذكر أيضا ذلك اليوم الذى فى عصره عادت طفلتنا من المدرسة تبكى لأن معلمة الدين خصصت حصة اليوم للكذب. قضت ساعتين تشرح بكلمات حجرية وصوت غليظ وعيون تطلق شرا كيف أن كل طفل يكذب ستنقض عليه الملائكة يوم القيامة وتربطه إلى أسياخ من حديد تلقى بها فوق نار لا تهمد وتتبادل تقليبه مرات ومرات. يومها اعترفت أمام الطفلة وأطفال آخرين يبكون بأن الكبار أيضا يكذبون وأن معلمة الدين كذبت على أطفال حصة الدين ووعدت أن أسعى لتحصل على عقاب تستحقه. وبالفعل عوقبت المعلمة ورئيسها. سمعت مديرة المدرسة تقول لمعلمى الدين كافة فى تبرير العقاب الذى أنزلته، تعلمون كما أعلم أن الله لا يكذب ووظيفتنا أن يعرف الطفل منذ الصغر أن الله لا يكذب، وأنه غير مقبول أن يكون فى المدرسة دعاة ومبشرون ومعلمو دين يكذبون فى أمور الدين حتى وإن كذبوا كبشر كثيرين فى أمور الدنيا.

••••


الأهل أيضا يكذبون على أطفالهم. يكذبون فى أمور كثيرة وبخاصة فى أمرين، الدين والجنس. مبررهم أن الواجب يحتم حماية أطفالهم. نقول ويقولون إن الأطفال أبرياء وبالتالى هم حساسون وناعمون ولا يجوز خدش براءتهم بإجابات بعضها قد يكون صاعقا أو على أقل تقدير مربكا.. يكذب الأهل أيضا فى الإجابة عن أسئلة تتعلق بالشجارات العائلية، وفى التصريح عن صعوبات مالية تمر بها العائلة. نبرر الكذب بضعف الاستعداد الذهنى لدى الأطفال، أو بضرورة أن نصطنع «فزاعات» تخيف الأطفال وتردعهم عن ارتكاب أخطاء جسيمة تضر صحتهم واستقرارهم النفسى. أحيانا يلجأ الأهل إلى تعظيم صورتهم أو تجميلها فى نظر أطفالهم بالمبالغة فى حجم إنجازات الأهل وثرواتهم ومعارفهم واتصالاتهم خاصة وأن الأطفال معروف عنهم أنهم يرددون بين أقرانهم ما يعرفون عن أهاليهم. كذلك يكذب الأهل حين يشجعون أطفالهم على النطق بكلمات حروفها ناقصة أو ترديد أغان هابطة بحجة أنها تجعلهم يبدون خفيفى الظل.

••••


يكذب الحكام كما يكذب أغلب البشر ولكن أكثر الظن السائد عندنا هو أن الحكام المستبدين يكذبون أكثر من الحكام المنتخبين ديمقراطيا، وهو ظن له ما يبرره على الأقل فى مجتمعاتنا العربية التى لم تعرف فى تاريخها المعاصر حكاما ديمقراطيين. كل من عرفناهم كانوا ينتمون إلى مذاهب الاستبداد أو ما يشبهه، وكلهم كانوا يكذبون، ابتداء من عبدالناصر والسادات وانتهاء بزين العابدين والقذافى وعلى عبدالله صالح وسلالة الأسد وحسنى مبارك ومرورا ببورقيبة وصدام حسين وملوك العرب وأمرائهم وأشهر من كل هؤلاء فى الكذب كان أبو عمار، رحمه الله.

حجتهم واحدة، نحن ــــ كحكام ــــ مسئولون عن حماية الشعوب وحفظ السلام فى المجتمع، وتدفعنا هذه المسئولية الجسيمة إلى الكذب. أكثرهم اصطنع فزاعات لترهيب الشعوب. مرة كان المندسون من الخارج، ومرات هم الإرهابيون والمتطرفون وأعداء الثورة والرجعيون والعلمانيون والعملاء وعناصر النظام البائد.

بعض الحكام أعاد صياغة أصله وفصله وابتدع أساطير حول سيرة حياته. فى حالات كثيرة اختفت شهادات ميلاد أو تغيرت، حتى إنهم فى أمريكا تحدوا على امتداد سنوات أن يطلع باراك أوباما الشعب على شهادة ميلاده وأخيرا ظهرت فى حالات أخرى تعدلت شهادات مدرسية وجامعية لتظهر بعلامات ودرجات جديدة تؤكد ذكاء خارقا للزعيم منذ طفولته، وفى هذا النوع من الكذب يتفوق نظام كوريا الشمالية على كل ما عداه. يكذبون أيضا حين يسمحون لأصحاب قلم برعوا فى الكذب لتدبيج روايات عن بطولات حربية وسياسية أو شبابية لم تحدث أو حدثت وجرى تصنيفها فى وقتها أعمالا عادية يفرضها الواجب. كما يكذب الحكام وبإصرار متعمد إذا أرادوا تعبئة الأمة للحرب، ولديهم الحجة فالعدو يجب أن تكون صورته أشرس ونياته أسوأ وتهديده أعظم ليتهيأ الشعب للحرب.

جون ميرشهايمر أستاذ العلوم السياسية بجامعة شيكاغو، وهو المؤلف المشارك لكتاب ذائع الصيت عن تأثير اللوبى الصهيونى فى السياسة الأمريكية، كتب مؤخرا يقول إن الزعماء المنتخبين ديمقراطيا يكذبون كما يكذب الحكام المستبدون وربما أكثر. ويذكر أمثلة من نوع كذبة الرئيس ليندون جونسون عن تعرض سفن البحرية الأمريكية لعدوان فى خليج تونكين وكان هدف الكذبة تصعيد العمليات العسكرية الأمريكية فى فيتنام، وكذبة الرئيس فرانكلن روزفلت عن حادثة تحرش غواصة ألمانية بمدمرة أمريكية وكان هدف الكذب تبرير الاشتراك فى الحرب العالمية الثانية. ومن الكذبات الشهيرة أيضا كذبة الرئيس جورج بوش ورئيس الوزراء طونى بلير عن امتلاك العراق أسلحة دمار شامل ليبررا شن حرب ضد العراق واحتلاله. ونعيش هذه الأيام مسلسل الكذبة الكبرى التى أطلقها زين العابدين وتبناها كل من مبارك والقذافى والأسد وعلى صالح وملك البحرين عن أن الثورات فى بلادهم من صنع مندسين أجانب.

••••


الكذب فى الحالتين، حالة الأهل وحالة الحكام، يعكس الاقتناع السائد بأن الشعوب، كالأطفال، عاجزة عن ممارسة الاختيار بين الحق والباطل وبين ما ينفعها وما يضرها. الفرق الوحيد هو أن الشعوب فى نظر حكامها خاصة وطبقتها السياسية عامة ليست بريئة براءة الأطفال، بل إن بعض الحكام وفلاسفة العصور الوسطى وكثيرا من علماء الدين وفقهائه فى العصر الراهن يعتقدون أن الشعوب شريرة وأن الكذب عليها جائز إن لم يكن فريضة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved