شجرة البراغيث

داليا شمس
داليا شمس

آخر تحديث: السبت 4 مايو 2019 - 7:15 م بتوقيت القاهرة

يرسم بإصبعه خطوطا على البلاط. يحاول تتبع قفزات البرغوث المتتالية. نقطة سوداء صغيرة تتحرك في لمح البصر على سطح البلاط الأبيض، اكتشفها بمحض المصادفة، بعدما شعر بلسعتها وتحولت اللدغات إلى بقع حمراء مرتفعة قليلا ومثيرة للحكة. ترى هل هو البرغوث الجائع نفسه الذي هاجمه قبل قليل، وامتص دمه؟ أم أن هنالك المزيد من هذه الكائنات الخفية التي غزت البيت داخل كومة الملانة أو الحمص الأخضر، لزوم الاحتفال بشم النسيم؟ حذره بعض الأصدقاء من أنها تجذب البراغيث، لذا يغطسها الباعة في المياه، لكنه لم يعط بالا لهذه الملاحظة العابرة، وفضل الاهتمام بالطقس الشعبي. وكانت النتيجة: براغيث تقفز ولا تطير، تمتص ولا تمضغ، تبيض ولا تلد، تشرب الدماء حتى ترتوي، وتغمر رأسها بعمق في جسم الضحية، طالما هي جائعة وتغادره فور الشبع، لكنها تعيش لبضعة أشهر وتتكاثر، فالحشرة الواحدة قد تخلف وراءها خمسمائة نسل مباشر وآلاف الأحفاد.

مراقبة هذه الكائنات الطفيلية التي تتغذى على دماء الآخرين تشبه العديد من الأشخاص والأشياء التي تغزو حياتنا دون أن ندري. تزداد الكراكيب التي يجدر بنا التخلص منها لكي نمضي قدما في الحياة، فتظل البراغيث تقفز على أرجلها الخلفية الطويلة وتمتص دماءنا وتثير الحساسية. مثلها أيضا مثل النبات الشيطاني الذي يحمل اسم عشبة أو شجرة البراغيث، يلدع هو الآخر بمجرد لمسه أو حتى استنشاق دخان حريقه. نبتة سامة تؤدي إلى العديد من الالتهابات، رغم جمال أوراقها الخضراء التي تشبه السماق. تنمو أيضا على أطراف الغيطان، تتسلق الأشجار الأخرى، تمتص غذاءها، وتؤذي من يقترب منها، وهي تظهر كذلك في الأراضي المهجورة والمتسخة. هذه الأخيرة هي بالفعل مرتع البراغيث، مثلما جذبت فروع الملانة الخضراء العديد من هذه الكائنات، فسكنتها وتاهت وسطها، وهي تحمل بداخلها حبات الحمص الأخضر. تقفز وتقفز وتقفز، بحرية بالغة. تمرح على الأسطح، معلنة عن دورة حياتها، غير آبهة بمن حولها من حيوان أو إنسان. تثير غيظه وحساسيته، خاصة عندما يعايره البعض بضيق الحال، فيقول له "كل برغوت على قد دمه"، وكأنه يجب أن يمتص كمية أكبر من الدماء كي تتسع ثروته ويعظم شأنه.

مزيد من الخيال قد يأخذنا إلى "قصر البراغيث" الذي كتبت عنه التركية إليف شافاق روايتها الخامسة، هو أيضا مكان تملأوه النفايات والأتربة، لا يتخلص سكانه العشرة من أشيائهم القديمة، بل يكادوا يعيشون مع الأموات. أشباح الماضي تحلق على هذا القصر الفخيم الذي بناه مهاجر روسي لزوجته في نهاية العصر القيصري، وتحول مع الزمن إلى عمارة يقطنها شخوص لم يتخلصوا قط من أوهاهم القديمة. يعيشون مع براغيث تثب وتقفز. هذا إضافة إلى القمل والصراصير. المؤلفة جعلت من قمامة القصر وبراغيثه رمزا تتحدث من خلاله عن حياة الأقليات في استانبول وعن العدالة الاجتماعية وعن أمراض المدينة ومشكلاتها. تحول القصر إلى عمارة منذ خمسينات القرن الفائت، وكانت هذه المنطقة في الأصل مقبرتين فصل بينهما جدار: قرافة كبيرة للمسلمين وأخرى أصغر للأرمن الأرثوذكس، لكن مع توافد المهاجرين والزحف السكاني تم هدمهما والبناء على أنقاضهما. ولكي يمنع أحد سكان "قصر البراغيث" الناس من إلقاء زبالتهم في باحة المنزل لجأ إلى حيلة وضع لافتة تشير إلى وجود ضريح ولي صالح في هذا المكان. ولي لم يكن يوما موجودا، لكنه يضفي على المكان قداسة، كما نفعل نحن كثيرا.

في القصر أو في الحقل أو على بلاط المطبخ، مراقبة هذه الكائنات الدقيقة قد يكون مربكا، خاصة أن أنواعها تصل إلى ثمانمائة نوع. لكن لا مبرر لأن نتركها تمص دماءنا. يثب البرغوث وثبة تكاد تكون غير مرئية، لكنها مؤذية، إلى حين التخلص من أسباب وجوده.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved