شمس المعرفة تريد أن تسطع من جديد

نبيل الهادي
نبيل الهادي

آخر تحديث: الأربعاء 4 مايو 2022 - 7:30 م بتوقيت القاهرة

فى خريف هذا العام يمر عشرون عاما على افتتاح مبنى مكتبة الإسكندرية الجديد والتى بدأت بفكرة طرحها الدكتور مصطفى العبادى أستاذ الآثار بجامعة الإسكندرية فى محاضرة عامة قبل ذلك التاريخ بثلاثين عاما مطالبا بإعادة مجدها القديم عندما كانت قبلة للدارسين وقت إنشائها فى عهد البطالمة. بينما اختلف المؤرخون حول الشخص الذى بنى المكتبة والعام الذى تم إنشاؤها فيه، إلا أنه من المؤكد أن شهرة مكتبة الإسكندرية القديمة ترجع ليس لأنها أول مكتبات العالم، فمكتبات المعابد الفرعونية كانت معروفة عند قدماء المصريين، ولكن لكونها أقدم مكتبة حكومية عامة فى العالم القديم. وبها حدث المزج العلمى والالتقاء الثقافى الفكرى بين علوم الشرق وعلوم الغرب، فهى نموذج للعولمة الثقافية القديمة؛ كان العالم الزائر لها أو الدارس بها لا يسأل إلا عن علمه، وكان عدد الكتب الضخم الذى تضمه المكتبة يتكون من ثلاثة مصادر: أولها مؤلفات العلماء الدارسين بها، وثانيها شراء أندر الكتب وأثمنها من تجار الكتب من مختلف الأماكن، وثالثها المكتبات الشخصية وكانت المجموعات الكبيرة تشمل الإنتاج الفكرى اليونانى المكتوب كله.

تحمست جامعة الإسكندرية وقياداتها للفكرة حيث لم يكن للجامعة مكتبة منذ افتتاحها. لقت الفكرة دعما محليا ودوليا حتى تبنت المنظمة الدولية للتربية والعلوم والثقافة «اليونسكو» الفكرة فى عام 1986 وأوصى مديرها آنذاك مختار امبو السنغالى بالتركيز على فكرة إحياء المكتبة القديمة. وبدأ اليونسكو فى قيادة الجهود الدولية والمصرية لتحويل تلك الفكرة الرائعة إلى حقيقة وبدأ ذلك بالإعلان عن مسابقة معمارية دولية شارك فيها أكثر من خمسمائة فريق من جميع قارات العالم وانتهت بفوز المكتب النرويجى الناشئ وقتها سنوهيتا. وكان المشروع المقدم من سنوهيتا بالإضافة إلى مراعاته للمتطلبات الوظيفية والفنية قد أبرز البعد الرمزى للمكتبة فصاغها على شكل قرص دائرى مائل مواجه للبحر يبزغ من الأرض كأنها شمس للمعرفة تشرق على الكون. كما كان للحائط الجرانيتى الخارجى الملىء بحروف لغات العالم المختلفة محاولة لتأكيد تنوع وعالمية المعرفة وسمح السقف الهائل للمكتبة بإدخال الضوء الطبيعى لها بصورة مبتكرة.
بينما عارض كثير من المعماريين المصريين وخاصة أولئك الذين شاركوا فى المسابقة التصميم الفائز وطالبوا بعدم تنفيذه وكانت أكبر حجة لهم هى التكلفة الكبيرة للغاية بمعايير وقتها والتى رأوها غير مبررة، ولكن بالنسبة لى كان دائما المبرر الوحيد لبناء مبنى بهذه التكلفة هو ألا يكون فقط رمزا لحب المعرفة والوصول إليها لكل الناس ولكن أن يكون ذلك فعلا بأن يحوى أكبر قدر من الكتب وأن تستخدم أيضا ما تملكه من تقنيات رقمية متطورة لإتاحة قدر أكبر منها للطلاب والباحثين وعامة الناس فى مصر وغيرها.
• • •
أنا أحد المفتونين بالمكتبة وخاصة تاريخها ولى مع مبناها الجديد العديد من الذكريات عبر العديد من الزيارات منذ افتتاحها وإلى أسابيع قليلة مضت. وكم أتمنى أن تحتفل مكتبة الإسكندرية بيوبيلها الفضى بعد خمس سنوات وقد بدأت فى إحياء التقليد القديم بالفرض على كل عالم يدرس بها أن يودع بها نسخة من مؤلفاته. كما أتطلع أيضا أن يقترب محتواها من الكتب من سعته الكلية المخطط لها ثمانية ملايين كتاب (عند استخدام النظم المتطورة للتخزين).
أتمنى أيضا أن يكون عدد زوارها للقراءة أكبر من عدد زوار المبنى الذى مع كل تقديرنا لهم. ولكى تنقلب نسبة الزائرين للمبنى والتى تبلغ حاليا حوالى ستين فى المائة من إجمالى الزائرين لتكون هى على الأقل نسبة القارئين يجب أن يتضاعف عدد القارئين بحلول ذلك اليوبيل ويوفر عدد المقاعد المتاحة فى المكتبة حاليا ما يمكنها من استيعاب هذا التضاعف بدون مشقة كبرى.

كما أتمنى أن تتحول القاعة الرئيسية فى المبنى المواجه للمكتبة لمكان للمحاضرات الرئيسية لهؤلاء العلماء الذين تستضيفهم المكتبة لكى يقضوا بين جنباتها الأسابيع والأشهر ويعملون جنبا لجنب مع شباب علمائنا النابهين. أتمنى ألا يمضى أسبوع بدون محاضرة للعامة يأتيها الجميع من كل حدب وصوب وتسهم فى نشر المعرفة وفتح باب المناقشة بدلا من كونها مكانا للكثير من المؤتمرات التى لا يتناسب بعضها مع الدور الأصيل للمكتبة.
أتخيل أيضا أن المكتبة فى يوبيلها ستكون قادرة على التواصل مع ما حولها بصورة أكثر فعالية وربما يكون باستطاعة الجيش اليوم إهداء المكتبة فى تلك المناسبة العظيمة الأرض التى يشغلها مكان السلسلة على الكورنيش المواجه للمكتبة والتى كما قال وزير الدفاع السابق المشير أبوغزالة فيما يحكى الدكتور العبادى أنها ليست بذات قيمة للجيش وعرض على منظمى المشروع شراءها بمبلغ من المال لم يكن وقتها متاحا لهم. وإن لم يكن هذا متاحا ألن يكون مناسبا أن تقوم المكتبة بتنظيم حملة لشراء ذلك المكان وتحويله طبقا للمخطط العام للمشروع لحديقة تكون مناسبة مع وظيفة المكتبة وإضافة حقيقية لكورنيش الإسكندرية ليستمتع مواطنوها وزائروها وتربط تلك المساحة بين المعرفة والبيئة الطبيعية البحرية.
• • •
تعرفت من خلال محاولة فهمى لنشأة المكتبة الجديدة على مدى ارتباط مبنى المكتبة بجامعة الإسكندرية وتمنيت أن تستعيد المكتبة رابطتها القوية بحرم جامعة الإسكندرية ليس ببساطة عن طريق فتح الكوبرى القائم حاليا والموصل بينهما ولكن ربما بإنشاء مكان للقاء بين الأفكار فى حرم الجامعة حيث يتقابل الطلاب مع زملائهم وأساتذتهم ربما وهم يتناولون بعض الطعام الصحى لا ذلك المتوافر فى وحول الحرم. ويكون هذا المكان الذى تتصادم فيه الأفكار هو الوصلة الحقيقية بالمكتبة والمعرفة وهو ما يدفع الطلاب جيئة وذهابا لتلك المكتبة الواقعة على الطرف الآخر.

لا يكفى أن تكون المكتبة على شكل قرص شمس يخرج من الأرض حتى يسطع نورها علينا، ولكن ينبغى لها أن تحوى دراسات وأبحاثا وأنشطة هى الأساس لتفاعلات قوية أتصورها ناجمة عن مئات العلماء الشباب وبعض العلماء الكبار؛ يعملون على كل ما هو هام وجديد ويتناقشون ويتجادلون ويتفاعلون ليس فقط فيما بينهم ولكن أيضا مع هؤلاء الذين يجذبهم نور المعرفة إليها حتى يمكن لشمس المعرفة أن تشرق من جديد من مكتبة الإسكندرية.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved